العبقرية تكمن في الحنكة المحلية في استدراج مصالح الخارج وجعلها مخصبة نافعة مغذية لمصالح الداخل، ذلك أن لهذا الخارج قدرة كاسحة على فرض رؤاه ضاربا عرض الحائط بهراء ‘القرار المستقل’.
استقال العرب من التزاماتهم المباشرة في تحرير فلسطين منذ أن أنشأوا منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 وأوكلوا إليها تلك المهمة. مذاك توقفت “القضية” عن كونها مهمة عربية، وصارت فلسطينية تحظى بتأييد “الأشقاء العرب”. وحين انتقلت رئاسة المنظمة عام 1969 من أحمد الشقيري الذي عينه النظام السياسي العربي (من خلال استحداث مجلس وطني فلسطيني) إلى ياسر عرفات قائد حركة فتح (مرورا بيحي حمودة بالوكالة)، تمّ للعرب الإمعان في التبرؤ من المسؤولية المباشرة في إزالة الاحتلال، وإيكال الأمر إلى حركة فلسطينية ناشئة تلوّح بفخر ببيرق”القرار الفلسطيني المستقل”.
يذكّر سليمان الفرزلي في كتابه “حروب الناصرية والبعث” بأن الرئيس جمال عبدالناصر أعلن عام 1962 أمام المجلس التشريعي في غزة أن “لا خطة” لديه لتحرير فلسطين. خاض النظام العربي صراعه الخاص ضد إسرائيل من أجل فلسطين حتى انهزم في حرب يونيو 1967. بعد ذلك تحوّل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع ذاتي يتعلّق بتحرير الأراضي التي احتلتها إسرائيل في مصر وسوريا، فكان أن خاض البلَدان حرب عام 1973 من أجل سيناء والجولان دون أن تكون لفلسطين حصّة مباشرة في أجندة العسكريين العرب. وحتى في مفاوضات السلم اللاحقة مع إسرائيل التي أنتجت “كامب دايفيد” مع مصر، و”وادي عربة” مع الأردن ولم تنتج اتفاقاً مع سوريا، فإن فلسطين بقيت خارج النصّ، إلا من ذكر هامشي يشبه رفع العتب.
وفي التشريح الأيديولوجي الذي خطّه المنظّرون العرب لجذور الصراع، تصدّعت رؤوس المنطقة بتقديم المشروع الصهيوني بصفته مؤامرة غربية كبرى تستهدف زرع كيان سرطاني في قلب المنطقة يمنع “وحدة الأمة”. ولئن اتفق منظرو الحركة الوطنية الفلسطينية مع المنظرين العروبيين على تلك المسلّمة، فإن المنظومتين، العربية والفلسطينية، تقاطعتا في إقالة العرب من مهمة التحرير، وتقزيم القضية إلى شأن محليّ يخص الفلسطينيين الذين صادف أن اختارت الحركة الصهيونية إقامة دولة إسرائيل في بلدهم (نُوقشت خيارات لإقامة تلك الدولة في نواح متعددة منها الأرجنتين وأوغندا).
وفي الجدل الفكري الذي عصف بالحراك الفلسطيني بتنوعاته المختلفة السابق على “أوسلو” ونشوء حركة حماس، تبرّع الفلسطينيون بتقديم أنفسهم “طليعة” للأمة العربية، على نحو يعيد بتطفل إقحام العرب بما اتفق أنه أصبح فلسطينيا.
راجت في سبعينات القرن الماضي نظريتان تختلفان في ترتيب الأولويات بين يسار ويمين حول ما إذا كان تغيير الأنظمة العربية يؤدي إلى تحرير فلسطين، أو أن تحرير فلسطين يؤدي إلى تغيير الأنظمة العربية، بما أفرج عن فوقية وادعاء لا يتّسق مع وزن وحجم العامل الفلسطيني داخل المشهد العربي العام.
على أن حركة فتح روّجت، برشاقة، لـ“القرار الفلسطيني المستقل”، حتى أنها في أدبياتها الداخلية نظّرت لعدم تدخل الفلسطينيين في الشؤون العربية، مقابل عدم تدخل العرب في الشؤون الفلسطينية، واضعة تدخل الفلسطينيين المحتمل بنفس مستوى تدخل العرب أجمعين، ومساوية في الأذى ما بين التدخلين، على ما يفصح عن غرور أجوف هو أقرب إلى الشعبوية الساذجة.
لكن الأنكى من ذلك، أن العبقرية “الفتحاوية” آنذاك كانت منهمكة في تحصين “استقلالية” قرارها في زواريب الفاكهاني في بيروت، غير مدركة لأهمية انخراط العرب الجدي والكامل والشامل في ورشة تحرير فلسطين، ناهيك (للمفارقة) عن أن المال العربي (الخليجي أساسا) كان يتدفق لتحصين “القرار المستقل”.
ورغم التجارب التي كابدها الفلسطينيون في رحلة الولوج إلى بعض فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن العقل السياسي الفلسطيني لم يرقَ إلى إنتاج وعاء فكري إستراتيجي يعرّف حجم فلسطين ودورها ووظيفتها في واقع الصراع مع إسرائيل. لا بل إن تحوّل الثورة إلى سلطة، أي إلى نظام سياسي لدولة عتيدة، فاقم من انعزالية الفعل الفلسطيني والدفع به إلى المزيد من محليّة تنزلق نحو زواريبية خلفية.
ورغم المأزق الذي وصل إليه الفلسطينيون داخل سجنهم الكبير المنقسم بين زنزانة القطاع وزنزانة الضفة، ورغم غياب “قضيتهم” عن سلم الاهتمامات العربية وتهميشها التام داخل سلم الأجندات الدولية، ورغم استقالة الفلسطينيين، على اختلاف فصائلهم من فتح إلى حماس وما على ضفافهما، من مهمة التحرير وانهماكهم في إدارة ستاتيكو “الانقسام”، ورغم أن يوميات العيش في “إقليميْ” فلسطين رهن بمزاج المحتل وكرم الدول المانحة (بما فيها العربية)، فإن منابر الضفة تعلن، بصلافة، رفضها لتدخل الدول العربية في الشؤون الداخلية الفلسطينية.
وإذا ما كانت مناسبة الحميّة الضفاوية مستوحاة مما قيل عن مشروع للرباعية العربية (السعودية والإمارات ومصر والأردن) لدعم مصالحة داخلية فتحاوية تقوي من عضد الحركة عشية الانتخابات المحلية (قبل إلغائها)، وتعيد تحريك ملف المفاوضات مع إسرائيل، فإنه حريّ ربما الابتهاج باستيقاظ البعض من العرب على الاهتمام بالشأن الفلسطيني الذي لم يعد شأنا عابرا لحدود “أوسلو” إلا لتغذية وجبات الممانعين الممعنين في التصفيق لنظاميْ بشار الأسد في دمشق والوليّ الفقيه في طهران برفع بيرق فلسطين.
وقد يستغرب أي مراقب أجنبي وليس عربيا استهجان منابر رام الله لتدخّل العرب النادر في شأن “المقاطعة” وضواحيها، فيما تتدخل كل عواصم الأرض المعنيّة بملف العلاقة مع إسرائيل في كل شارد ووارد يتعلق بالسلوك الفلسطيني وقواعد بقاء سلطته.
تدخلت أجهزة المخابرات الدولية الكبرى في تدريب الوحدات الأمنية والشرطية التابعة للسلطة، وتدخلت العواصم الغربية في تمويل برامج تنموية تشتغل عليها المنظمات الفلسطينية غير الحكومية. وتدخلت الدول الأوروبية المانحة في توفير خط تمويلي يؤمّن دفع رواتب موظفي السلطة التي تشحّ حين تتعطّل دفعاته المستوردة، ناهيك عن التنسيق الأمني الذي تقيمه أجهزة السلطة مع أجهزة الاحتلال على ما يعتبر تدخلا خانقا في التفاصيل اليومية لحياة الفلسطينيين وشروط تنقلهم وقواعد حركتهم…إلخ. ومع ذلك فإن منابر السلطة منزعجة من تدخل عربي يفترض، أياً كانت دوافعه، أن يكون تطوّرا لافتاً على الفلسطينيين المضي في استدراجه. وإذا ما كان في الرباعية ما يقلق، فحريّ استدعاء ثلاثيات ورباعيات أخرى لعلها تنتج توازناً يعيد العرب إلى ساحة فلسطين.
ينحصر “تحفّظ” السلطة في تقززها من تدخل الرباعية، مما تسرّبه سطور المبادرة العربية من “فرض” لعودة محمد دحلان إلى الصفوف القيادية لحركة فتح. بمعنى آخر، ينشغل الفعل الفلسطيني، المفترض أنه مناقض للفعل الإسرائيلي، بالمماحكات التي تزعج أروقة السلطة في “السلطة” من مغبة تمرد دحلان يوماً على قيادة الرئيس، علماً أن ذلك “الحرد” بين الرجلين لا يعدو كونه ضجيجاً مسلياً للمثرثرين تحت النوافذ، وقلما يهتم له الفلسطينيون في “أقاليمهم” أو شتاتهم.
ربما على الفلسطينيين أن يدركوا، وهم لا شك يدركون، أن عظمتهم المفترضة التي لا تحتمل تدخلا خارجيا، مستوحاة تاريخيا من نبل قضية لازمت نكبتهم، لكنها أيضاً متناسلة من صراعهم مع محتل يمثّل استثناء في وجدان العالم منذ “الهولوكست”.
وإذا ما اقتنع الفلسطينيون بحقيقة ذلك، وهم لا شك مقتنعون، فإن فلسطين في حجمها وثقلها وسعتها وعمقها وسلطتها وراهنها، لا يمكن، شأنها في ذلك شأن الدول الصغيرة والمتوسطة، إلا أن تكون رهن مزاج يتقاطع داخله الإقليمي بالدولي، وأن العبقرية تكمن في الحنكة المحليّة في استدراج مصالح الخارج وجعلها مخصّبة نافعة مغذية لمصالح الداخل، ذلك أن لهذا الخارج قدرة كاسحة على فرض رؤاه ضارباً عرض الحائط بهراء “القرار المستقل”.