لبنان: سلة بري ومؤتمر نصرالله التأسيسي!/محمد قواص

يتجادل السياسيون اللبنانيون المخضرمون في مصير اتفاق الطائف واعينهم على ما ستؤول اليه معركة حلب.

2699

تنعقد في لبنان ورشة حوار جديدة تسعى لإخراج البلد من مأزقه السياسي منذ مغادرة الرئيس ميشال سليمان قصر الرئاسة في بعبدا. يعبّر الفراغ الرئاسي عن أزمة حكم في البلاد تستدرج إعادة تأمل للنظام السياسي ولاتفاق الطائف الذي يسيّره منذ انتهاء الحرب الأهلية. هكذا تلمّح بعض الأطراف منذ أن دعا السيّد حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، يوماً إلى مؤتمر تأسيسي يعيد صياغة العقد الدستوري اللبناني.

تروم ورشة الحوار الحالية مناقشة سلّة حلول حملها رئيس مجلس النواب نبيه بري للتوصل إلى صفقة يتمّ الاتفاق من خلال على الرئيس والحكومة وقانون الانتخابات. وحين تشمل المداولات كل هذه الملفات الدستورية، فإن من حقّ المشككين أن يعتبروا أن “سلة” بري هي مؤتمر تأسيسي مقنّع هدفه تغيير قواعد اللعبة في النظام السياسي اللبناني.

يستبق بري شكوك المشككين ويعلن تمسكه وحلفاءه باتفاق الطائف وعدم النية بالنيل من قواعد الدستور الراهن. تطلق شخصيات من “14 آذار” نداء لحماية “الطائف” وعدم الإنجرار نحو مسالك إعادة التأسيس، ولو وفق مسميات أخرى. في ذلك أن احترام الدستور الحالي يتطلّب احتراماً للاستحقاقات الدستورية، وأولها انتخاب رئيس للجمهورية، على أن لا يخضع أمر ذلك لمساومات تجعل من انتخاب رئيس مسيحي أمراً عرضياً نسبياً بالإمكان الاستغناء عنه وجعله ترفاً.

يعطّل الانتخابات الرئاسية الطرف الذي يرفض النزول إلى مجلس النواب وتأمين نصاب لانتخاب الرئيس. لجميع الأطراف خياراتها المعلنة وميولها المشروعة في تفضيل مرشّح على آخر، لكن حزب الله وحلفاءه وحدهم من يقرنون التفضيل بحتمية اختيار مرشحهم، علماً أن شكوكاً كثيرة تدور حول حقيقة وجدية دعمهم للمرشح ميشال عون رئيسا للبلاد.

الدستور ليس قانون سير تعدّل مفاعيله وفق أهواء الازدحام وحال الطرق. لا يمكن بناء الأمم إلا وفق تراكمات تفصيلية تؤسس البنيان مدماكاً فوق مدماك. عطّل المزاج الميليشياوي رصانة القوانين. أقفل البرلمان وشلّت السلطة التشريعية في أعراض الصراع السياسي وبرعت القوى السياسية في انتاج عدّة خلاقة لتعطيل المؤسسات، وجعلها دائما خاضعة للصفقات والاتفاقات الجانبية المتجاوزة لقواعد الدستور.

منذ سابقة “الدوحة” بات التعطيل جزءا بنيويا من النظام السياسي اللبناني وبنداً مفصلياً في الحياة السياسية اللبنانية. بات تشكيل الحكومات وتشكّل المؤسسات يجري وفق شروط حقّ التعطيل، بمعنى أن القاعدة هي التعطيل والاستثناء هو العكس. وعلى أساس تلك الذهنية يعطّل انتخاب رئيس للجمهورية ويالتالي تعطّل القوة التشريعية لمجلس النواب وتعطّل الديناميات التنفيذية لمجلس الوزراء. وحتى تُفكك كوابح التعطيل على الطبقة السياسية المرور بامتحان “التأسيس” أو قدرية “السلة”.

ينظّم الدستور في لبنان وظائف المؤسسات الدستورية وتوزيعها وفق الخريطة الطائفية المعروفة. أنهى دستور الطائف الحرب الأهلية اللبنانية وأعاد توازناً ما في ميزان المحاصصة الداخلي. جرى إخراج “الطائف” وفق موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية لعام 1989. وعليه يتحرى المطالبون بإعادة تعديل للحصص الاستفادة من تبدّل مزعوم أو متخيّل أو متوخى من موازين القوى في المنطقة والعالم هذه الأيام.

لا يمكن فرض تعديل للدستور اللبناني بقوة السلاح. هكذا يرى خصوم المؤتمر التأسيسي ذلك، فيما يذهب آخرون إلى رفض تعديل لقانون الانتخابات والذهاب به إلى النسبية الكاملة تحت سلطة السلاح غير الشرعي. في البلد من يرى في “فائض القوة” التي يستقوي بها حزب الله على بقية الفرقاء اللبنانيين فرصة مؤاتية لفرض نظام سياسي لبناني يتّسق مع موازين ذلك “الفائض”. وفي البلد من يرى أن التخلي عن ذلك “الفائض” والالتحاق بالدولة، والدولة فقط، كفيل بفتح أبواب الإصلاح الدستوري على مصراعيه.

ولئن كان للبعد الخارجي أساس في انتاج التسويات اللبنانية منذ استقلال البلد، فإن عجز الخارج عن ذلك، لعدم اهتمامه أو عدم قدرته، يشرّع أبواب الورش المحليّة لعلها تنجح في انتاج بيتي مقبول أو مفروض يُمرر من وراء ظهر العالم. لكن ذلك يهمل هامشية القدرة الذاتية عن المناورة داخل منطقة يعاد رسمها في الجغرافيا كما في خريطتها الاستراتيجية، كما يغفل ما لـ “صراع الأمم” من تأثير مباشر على طبيعة النظام السياسي الذي يجب أن يحكم البلد.

تعرف الطبقة السياسية اللبنانية أنها تعمل وفق هامش محدد تفرضه ملامح الصراع الإقليمي بين الرياض وطهران، وذلك الدولي بين واشنطن وموسكو. وتعرف الطبقة السياسية هذه أن قرار الحكم في بيروت واستقراره متعلّق باتفاق كافة الفرقاء على ذلك، على ما جرى دائما منذ عام 1943 حتى الآن. فإذا ما صمد اتفاق الطائف ولم تجر المطالبة بتعديله طوال فترة الوصاية السورية، فإن لذلك أسباب تتعلق بالمتاح والممنوع في المشهد الدولي العام، وأن تلك الأسباب ما زالت قائمة، لمنع الإطاحة باتفاق السلم بين اللبنانيين.

يمارس الرئيس بري والسياسيون اللبنانيون وظيفتهم في التداول في شؤون الحكم والسياسة حتى ينتهي العالم إلى حال ما في كل منطقة الشرق الأوسط. يرشح الرئيس سعد الحريري سليمان فرنجية للرئاسة يقابله دعم سمير جعجع لميشال عون يتواكب ذلك مع تكرار حزب الله أن مرشحها الدائم هو جنرال الرابية ويتسلى زعيم المختارة وليد جنبلاط في إطلاق رسائل تزيد من تذبذب البورصة الرئاسية. كل ذلك يجري لاستهلاك محلي تضج به وسائل الإعلام وتتلقفه الصحافة وتعمل فيه تحليلاً واستشرافاً. لكن كل ذلك لا يعدو عن كونه جلبة محلية بانتظار انجلاء غبار الضجيج الكبير الجاري في كل المنطقة.

لن يتوصل المتحاورون هذه الأيام إلى أي اتفاق أو تسوية تذكر. سيعيد الإعلام اللبناني تذكير اللبنانيين بالنخب السياسية التي تتصدرهم، وستتوقف الكاميرات كثيراً على مشاهد الداخلين والخارجين والمتحدثين والمتنافرين، وسيتعاقب المشاركون على الكلام والتصريح والتلميح دون أي يخرج من مدخنة الحوار أي دخان أبيض. يعرف الرئيس بري ذلك، ويعرف أن سلته التأسيسية لا يمكن تسويقها. ويعرف المتحاورون أن جلساتهم المتعاقبة لن تثمر حملاً حتى لو جرى تلقيح مكثّف، على ما يوحي بسط الحوار على أيام ثلاث، ذلك أن عجز الكبار عن الخلاص إلى شاطئ في المنطقة لا يتيح للصغار العثور على ضفة ساكنة.

سيتابع المتحاورون معركة حلب لعلها تحسّن من حظوظ فرض التسوية المنشودة. لكن تأملاً أكثر نضجاً وأعلى حنكة سيكشف أن تدبير النظام اللبناني وقلب قواعده يحتاج إلى أكثر من تفصيل يومي في أحوال حي الشيخ مقصود والكرّ والفرّ بين أحياء الفيحاء.