تسقط النخب، ليس لأنها لم تستشرف ‘ربيع’ العرب، فذلك صدفة تاريخية قد لا يمكن التفطن إليها، بل لأنها صفقت لإسقاط الأنظمة حين لم تدع إلى ذلك قبلا.
سلسة من الجلسات انعقدت بمدينة أصيلة قبل أيام في إطار الموسم السنوي الـ38. اختار المشرفون على الملتقى الشهير نقاش مسألة “النخب العربية والإسلامية: الدين والدولة”. ولأن المشاركين نخب مثقفة تعمل في الفكر والسياسة والبحث والإعلام، فإن مباشرة النقاش سلّطت المجهر على واقع جديد: سقوط النخب.
لم تُشف النخب الثقافية من حقيقة أن المنطقة منذ “ربيعها” المشؤوم تمرّ بعروض غافلت كل أهل القلم والقول والتفكير. أطلق محمد البوعزيزي في تونس نفير الزلازل دون أن يستأذن أولي البحث والتحليل وعتاة الاستشراف. خرجت “ثورات” المنطقة وعلتْ الحناجر مطالبة بـ“إسقاط النظام” دون أن تستفتي كتبا تراكمت ومقالات سطّرت على مدى العقود الأخيرة، حتى أنه حين ضجّت الميادين ببشرها وقف “المثقّف” مشدوها فاغر الفاه يحاول أن يفهم ما غفل عنه ولم يخطر له ببال.
نعم سقطت النخب. بات الشارع يحدد مسارات الأمم دون أي تحريض أيديولوجي سابق على ما فعل المتنورون عشية الثورة الفرنسية، وعلى ما فعل كارلس ماركس وورثته في القرن الماضي…إلخ. كانت الثورات تنفجر من أجل إقامة “مدينة فاضلة” يبشّر بها المفكرون منذ ما قبل أفلاطون، فكان حراك الناس صدى لهمسات نخبهم. صارت الثورات هذه الأيام تنفجر لإسقاط حاضر وارتجال مستقبل، فلا يستند الحراك على فكرة بناء بل على حاجة للتدمير. وحين خيّل للبعض استنتاج خلاصة نظرية تنقذ ماء الوجه، جرى الاستسلام لـ”الفوضى الخلاقة” بصفتها سرّ العصر وملهمة ثواره.
كان جليا أن النخب التي تناقش “دور النخب” في أصيلة كانت تسعى إلى الجواب على السؤال الوجودي الكبير، هل مازالت هناك نخب تؤطّر حراك الأمم وتضبط أحوال العمران الخلدوني في ثناياه؟ لم تفلح الأجوبة في تطمين النخب بضرورة وجودها ولزومية بقائها. بات مثقفو هذا العصر في زمن “الربيع” يحتلون المقاعد الخلفية للمتفرجين. غادروا الملعب خائبين يحملون تحت جلدهم ما خفّ حمله من عصارة الفكر الكوني الذي عجز عن تفسير “البوعزيزية” حدثا وفلسفة ومآلا.
في مسرحية “فيلم أميركي طويل” لزياد رحباني في لبنان، تشكو شخصية نزار المثقف التقاعس عن إيجاد الأجوبة لـ“الحجّة” التي تريد أن تفهم ما الذي يحصل حولها؟ يسقط المثقف في دوامة من الجنون لأنه ليس “الحجّة” ولا يريد أن يكون أبدا. نعم هو جنون ذلك الذي ينفخ في النخب علّة الكلام خارج الموضوع، وكم سمعنا كلاما خارج الموضوع في أصيلة.
ينهل “العارفون” هذه الأيام من غابر الزمان علّهم يستشرفون أحوال ما هو قادم للعالم. والمفارقة أن سجال النخب ينقسم كما انقسام المنطقة السياسي الثقافي. في الضفة الأولى من يبشّر بالعودة بالحجر والبشر إلى أزمان عتيقة في الدين، فيدعو إلى فهم “الجماعات” والاعتراف بطبيعة وعيها. وفي الضفة المواجهة من يحنّ إلى زمن ما قبل “الربيع” وحتى ما قبل الاستقلالات وما قبل الجمهوريات. وفي الضفتين همّة عالية لـ“الرجوع”، ولا نية أو قدرة أو رغبة في “التقدم”. وما الخلاف بين المدرستين إلا على الحقبة المناسبة للسكون إليها.
لا حاجة للنخب العربية في أن تجلد ذاتها. صحيح أن صدى الشارع قد تحدده أدوات العصر أكثر من أفكار تلك النخب، لكن الداء ينسحب على العالم أجمع، من حيث عجز النخب، بالمعنى الكلاسيكي المعروف، عن رسم السبل التي يسلكها التاريخ. بات مصير الكون يُقرر في الغرف المغلقة، وباتت وسائط الاتصال الاجتماعي تسيّر أمزجة العامة. لم تسلم النخب، نفسُها، من الاستسلام لقدرية هذا العصر ونسقه المعولم، وصار رواج الفكرة يحدده مزاج فيسبوك وتويتر وبقيةُ منابرٍ لا يتوقف إنتاجها. وليس عيبا الاعتراف بهيمنة وسائل الزمن، لكن العيب في ألا نجد ترياقا إلا في ما وراء هذا الزمن من ماض لم تعد سِلعُه صالحة ولم تعد قيمه تحاكي لغة العصر. في سقوط النخب ما يبرر خواء حراكها في المواسم والملتقيات والمؤتمرات. يستهلك الدينيون جهدا وحججا للدفاع عن الإسلام دينا لمنطقتنا، غير عابئين بأنه دين المنطقة منذ أكثر من 14 قرنا وسيبقى كذلك في القرون القادمة دون عناء النخب الغيورة على الدين الحنيف. لم يدمر إسلام القرون الماضية تماثيل باميان في أفغانستان، ولم يهدد بقطع رأس أبي الهول في مصر. لم تشرّع النصوص مسالك تُنتهج هذه الأيام تعتمدُ على نفس النصوص بعد إعمال الاجتهاد فيها من قبل نخب هذا العصر. لا يعترف الدينيون بأن هزيمة الإسلام السياسي في نسخاته المتعددة هي نتاج طبيعي منطقي حتمي لسلوك إسلامييه، وأن نكساته ليست وليدة مؤامرة تارة ضد الإيمان، وتارة أخرى ضد الحرية والديمقراطية. في ذلك أن النخب المدافعة عن الدين في السياسة تعيد اكتشاف الإسلام كسلعة إنتاج للسلطة، كما يعيد آخرون اكتشاف أدبيات اليونانيين لإقامة عالم لا دين فيه.
بالمقابل يهرول اللادينيون بنزق عصبي متعصّب لنفي الواقع منذ أن سقطت إمبراطورية السوفيات وقامت إمبراطورية الوليّ الفقيه في إيران. كل شيء في المنطقة يتحدد وفق مناخ الدين وطقوسه. يسقط الاتحاد السوفياتي برياح الدين في أفغانستان، ويقف البولنديون في صف طويل طلبا للاعتراف أمام قسّ يعيد الدين للدولة بعد أن نفاه إلحاد الدولة الشيوعية. تستعر في البلقان حروب الأديان ويقرر الرئيس الأميركي جورج بوش مصير بلده وفق رؤية ربانية تأتيه في المنام. وما أبوبكر البغدادي، وقبله أسامة بن لادن، إلا أورام دينية خبيثة انتفخت على خلفية شيوع الدين سلاحا سياسيا تستدعيه عواصمنا لردّ الخطر اليساري على الحكم، وتستدعيه عواصمهم لصد الإلحاد الشيوعي تارة، ولمآرب تُدبّر بين الدول تارات كثيرة.
لم يكن للمثقف أن يكون سلطة فكر إلا إذا كان مستقلا عن سلطة الحكم. في هذا طوباوية مستحيلة متخيّلة لا تستقيم حتى لو خيّل للبعض يوما أنها استقامت. يعمل أهل الفكر كتّابا عند السلطان، فإما يقدمون له المشورة كما ماكيافيلي للأمير، وإما يطبلون له السلوك، وإما يهاجمونه فيعملون، من حيث يدرون أو لا يدرون، لصالح سلطان خصم.
لم تستطع نخبُنا، إلا نادرا، إنتاج فكر محلي يستوحي مدخلات ما هو محلي. أعادت تلك النخب استهلاك الفكرة المستوردة، سواء أكانت اشتراكية أم قومية أو ليبرالية. وما إن تتقادم الفكرة في أسواق الخارج تتلعثم نخبنا في تدبير أمورها، وغالبا ما تشتري أي فكرة رائجة في تلك المواسم. ألم يتحوّل الشيوعيون والعروبيون إلى مطبلين لـ“الثورة” في إيران، وبعضهم إلى مصفق لـ“غزوة” القاعدة في نيويورك ضد “الإمبريالية”، بعد أن صدّعوا رؤوس البشر على مدى عقود بالدعوة إلى العلمانية وتغليب سلطة المادي على ما وراء المادي.
تسقط النخب، ليس لأنها لم تستشرف “ربيع” العرب، فذلك صدفة تاريخية قد لا يمكن التفطن إليها، بل لأنها صفقت لإسقاط الأنظمة حين لم تدع إلى ذلك قبلا، وحين دعت إلى حماية الأنظمة والتمسك بها حين كانت تعتبرها كابحة للتقدم وقاتلة له قبل ذلك. تسقط النخب لأنها باركت صراع المذاهب وابتدعت له وظائف حضارية وضرورية لتطهير الأمم من أحقادها. وتسقط النخب لأنها في إدانتها للتمذهب تنطلق من حوافز جوانية مذهبية تكشف زيفا مورس خلال السنوات التي تلت ولادة الدولة-الأمة في منطقتنا. تسقط النخب لأنها تقف مربكة أمام تصدّع الحدود بين البلدان وتراخي ثوابتها وبروز نزعات قومية منطقية ومشروعة للتمرد على قوانين “الأمة العربية والإسلامية”. تسقط النخب لأنها تقتات من ميراث قديم قدّم لها العالم في الجغرافيا والديموغرافيا وخرائط الأمم، فأعملت به علم المنطق والتحليل، وهي إذ يتراءى لها زوال ذلك الميراث، تقف مذهولة مصدومة تعجز عن تقديم جواب واحد عن سؤال فلاديمير لينين الشهير “ما العمل؟”.
صحافي وكاتب سياسي لبناني
محمد قواص