لو قال لك الطبيب: إن الثوم يحسن صحتك وجهازك المناعي، أو قال لك: إنه يقلل من احتمال إصابتك بالجلطة.. أيهما أكثر تأثيرًا؟ الصياغة الأخيرة تؤثر بك أضعاف الأولى، رغم أن الفكرة واحدة، فنحن قد نتأثر بطريقة عرض الفكرة أكثر من نتيجتها..
الخوف من الخسارة يؤثر في النفس أكثر من الأمل بالربح، لدرجة أن نتخذ قرارات قد تضرنا حسبما تقوله الدراسات الحديثة في علم النفس الاجتماعي، فقراراتنا في الحياة تتأثر بعوامل ظرفية مؤقتة أو شكلية كطريقة عرض الخيارات المتاحة.. مثلاً، التركيز على عرض الأضرار مقابل عرض آخر بالتركيز على المنافع، فالأول يؤثر أكثر حتى لو كانت النتيجة واحدة..
يقول المثل: «لا تتخذ قراراً يدوم عبر عاطفة مؤقتة»؛ البريطانيون اتخذوا قراراً بترك الاتحاد الأوروبي، لكن كثيراً منهم صدموا من العواقب ونادمون على خيارهم، ويشعرون أنهم خدعوا بوعود دعاة الانفصال، حتى بلغ الأمر أن جُمعت ملايين التوقيعات لإعادة الاستفتاء. فما الخديعة «النفسية» التي استخدمها دعاة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي؟
استخدموا عنصرين أساسيين.. عنصرالتخويف من الاتحاد، وعنصر الترغيب بالانفصال، إنما ركزوا على الأول، فالترهيب يؤثر بالناس أكثر من الترغيب، مستندين على حالة الإحباط لبعض البريطانيين، وإلقاء اللوم فيها على سياسات الاتحاد الأوروبي.. فالمحبط قد يتخذ قراراً انفعالياً دون تفكير عميق بالعواقب..
لنبدأ بالعنصر الثاني، وهو الوعود بالمكاسب الاقتصادية، خاصة بوعد ناصع الوضوح بأن المملكة المتحدة ستسترد 350 مليون جنيه إسترليني تمنح للاتحاد الأوروبي أسبوعياً وإنفاقها على الخدمات الصحية الوطنية (بي بي سي). هذه الوعود لم يتبين مغالطتها فحسب بل إن أغلب التوقعات تشير إلى خسائر فادحة تنتظر الاقتصاد البريطاني إذا تم الخروج من الاتحاد الأوروبي، رغم أنه من المبكر الحكم على هذا التوقع. أما الوعد باسترداد المليارات سنوياً، فقد توصل معهد الدراسات المالية في بريطانيا إلى أن مئات الملايين المزعومة التي أرسلتها بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2014 بلغ صافي مساهمتها 109 ملايين جنيه إسترليني..
بعدها، فوراً، شن كثيرون انتقادات واسعة على هذا التعهد الكاذب لقادة حملة الانفصال ووعودهم الوهمية. فعلى من يقع اللوم في الوعود السرابية؟ لقد تنصل قادة حملة الخروج من هذه الوعود أو فسروها على غير معناها الظاهري، أما التعهد بتوفير 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعياً فقد نأوا بأنفسهم منه.. وعلى رأسهم نيغل فاراج (زعيم حزب الاستقلال البريطاني) وبوريس جونسون (عمدة لندن السابق) ودونكن سميث (قيادي في حزب المحافظين) وليام فوكس (وزير سابق لدى المحافظين).
السيد فاراج قال مع ابتسامة المنتصر إنه لم يعد بتلك التعهدات، وعندما سُئل من قبل سي إن إن لماذا لم يُصحح علناً الرقم الذي قدمه زملاؤه، رد بأنه لا يمكن تصحيح كل ما يقال وأنه «طيب ورقيق للغاية»، ربما يقصد تجاه زملائه بعدم نقدهم. أما سميث فقد أعاد الصياغة ولطفها بأن الأمر كان بمثابة «إمكانية» وليس تعهدًا؛ في حين أن فوكس قال بكل بساطة: «الكثير من الأمور التي قيلت في وقت سابق لهذا الاستفتاء ربما نريد التفكير بشأنها مجددا».
العنصر الثاني وهو الأهم أي التخويف من الاتحاد.. فالناس تتجنب ما يخيفها أضعاف ما تسعى للحصول على ما ترغب به.. هذا العامل النفسي يمكن أن يجعلنا نتخذ قرارات ضارة بنا.. ومن هنا، ركز دعاة الانفصال على خطر الارهاب والمشكلات الأمنية والأزمات الاقتصادية والخسائر المالية، زاعمين أنها بسبب الاتحاد الأوروبي وسياسته التي أدخلت الأجانب خاصة من شرق أوربا والمسلمين إلى البلاد..
هذا العامل النفسي يعتمد، أيضاً، على دغدغة العواطف القومية.. فالمنطق الانفصالي المشترك بين كل دعاة القومية الشوفينية في العالم يستند على العاطفة الوجدانية للمجد القومي، والزعم بأن أغلب الأزمات هي بسبب الآخرين: العولمة (منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي) والشركات متعددة القومية، الاتحاد الأوروبي، المهاجرين، الإسلاميين.. لذا فعلى هذه الدول كي تعود لسالف أمجادها القومية أن تستقل في دولة نقية بلا مهاجرين ولا أجانب ولا اتحادات مع دول أخرى..
المفارقة الطريفة أن كثيراً من دعاة الصفاء القومي في العالم الغربي هو أنفسهم مختلطو القوميات.. فزعيمهم في بريطانيا نيغل فاراج زوجته ألمانية، وبوريس جونسون لديه جنسية أمريكية إضافة لجنسيته البريطانية، وينحدر من أصول تركية، والآخر ترامب في أمريكا أمه اسكتلندية.. وهلم جرا. الواقع الحالي عولمي بالضرورة وليس قومياً بالتمنيات..
الآن يسعى القادة البريطانيون بشتى الوسائل إلى تجنب الكوارث من قرارهم بالانفصال، هذا شأنهم.. إنما التساؤل، هنا، عن طريقة اتخاذ الناس للقرار.. وكيف تورطت أعرق ديمقراطية في العالم باتخاذ قرار مصيري جعل نسبة كبيرة ممن صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي يتراجعون بعد فوات الأوان نتيجة التداعيات المرعبة التي حصلت..
الدراسات الحديثة في علم النفس الاجتماعي لديها قصة أخرى مختلفة تماماً عن الرواية التقليدية التي تقول إن الأفراد يتخذون القرار المناسب لمصالحهم.. إنه درس جديد في اتخاذ القرار سيتناوله المقال القادم..
نقلا عن :ایلاف