في تلك المطحنة لا مكان للعقل، بل المطلوب وفق قواعد تلك اللعبة أن يخرج من الصدام منتصر بغض النظر عن وسائل ذلك النصر وثمنه.
أياً تكن حيثيات الحدث وخلفياته، وسواء أتت أسبابُه ذاتيةً أو مشبوهة مستوردة من وراء البحار، فإن مطحنة تدورُ بحيوية تنشطُ داخلها كل جماعات الإسلام السياسي في المنطقة. تتواجهُ الجماعات السنّية والجماعات الشيعية في ميادين النار في العراق وسوريا واليمن، فيما الرأي العام المتمذهب يقفُ وراء جماعاته داعما ومبررا ومعولاً على “المجاهدين” في حسم الصراع المؤجل منذ صفين. في ذلك أن المنطقة تعيش أقصى حالات الاهتراء الذهني المستسلم للغرائز البدائية الأولى.
تنساقُ الجماعات وفق برمجة ماهرة ترتدُ إلى ما قد يشبه هوياتها البيولوجية. السنّة، في عمومهم، قلقون من أطماع إيران، غير مرتاحين للاتفاق العتيد بشأن برنامجها النووي، يرفضون سطوتَها في العراق وهيمنتَها في سوريا ونفوذَها في اليمن وتمددَها في لبنان. وعليه فإنهم لا شك مصفقون لمن يقوّض شأن الجمهورية الإسلامية ويُربك مسعاها، سواء أتى هذا الجهدُ من قوى المنطقة أو أعانهم على ذلك مزاجٌ إقليمي دولي مناسب.
بالمقابل يربطُ الشيعة راهنهم ومستقبلهم براهن إيران ومستوى قوتها. ولئن تعملُ طهران وفق أجندةٍ إيرانية خالصة تتسقُ مع مصالح النظام السياسي في طهران، يجدُ الشيعة، دون تردد ولا حرج، أن مصلحتهم في البحرين وبقية دول الخليج، كما في العراق واليمن ولبنان، وربما في أفغانستان وباكستان.. إلخ، ملتصقة بتفاصيل الشأن الإيراني في زواياه المحلية أو تلك المتعلقة بمقاربته للعالم أجمع. في ذلك أن وسائطَ الإعلام الاجتماعي تفرج عن مزاج شيعي عام ينتقد “عاصفة الحزم” لكونها “اعتداء على المظلومين في اليمن”، ولا يحرّك ساكناً للتعبير عن سخط أو استنكار ضد ما يتعرض له “المظلومون” في سوريا مثلاً.
في تلك المطحنة لا مكان لموضوعية ولا مكان للعقل، بل المطلوب وفق قواعد تلك اللعبة أن يخرجَ من الصدام منتصرٌ، بغضّ النظر عن وسائل ذلك النصر وثمنه لدى البشر والحجر، وبغضّ النظر عن أخلاقية هذا الانتصار. وفي تلك المطحنة يتقاتلُ “الجهاديون” سنّة وشيعة في سبيل “الدفاع عن المراقد”، أي عما هو موت، ويدفعون من أجل ذلك كل ما هو حياة، أو في سبيل ردّ “الرافضة” عن “ذل أهل الجماعة”، ويستخدمون في القول كما في العمل كل العدّة التي تنتمي إلى عصور “الفتنة الكبرى” التي أطلّت غداة وفاة نبي المسلمين.
على أن قتال الجماعات الشيعية المجاهدة ضد تلك السنيّة المجاهدة، يتواكبُ مع مقتلة أخرى تتواجه فيها الجماعات الجهادية السنّية في ما بينها. ولئن يعبرُ التنافس المعلن والمكتوم بين “داعش” و”القاعدة” عن شكل من أشكال ذلك الصدام السنيّ البيني، فإن تجلياته السورية في معارك النصرة ضد داعش، أو صدام الجماعات السورية المعارضة في ما بينها يؤسسُ لمشهد دموي دراماتيكي يحفرُ سيرة مقتلة لا تنتهي، حتى بعد سقوط نظام دمشق أو الاهتداء إلى تسوية هناك.
لا تبتعدُ جماعة الاخوان المسلمين عن الطاحونة الكبرى. فهي في جهدها المصري تخلطُ بين المدني والعسكري وتمارسُ سلوكاً ملتبساً بين ما هو سياسي وما هو إرهابي. وبغضّ النظر عن الرواية التي تقدّمها القاهرة، فإن الجماعةَ مترددةٌ مربكة في ادانة أشكال الإرهاب الذي تتعرض له مصر في سيناء والمدن الأخرى، وتعتبرُ الظاهرة نتاجاً لمفاعيل إبعاد الإخوان عن الحكم، فيما خبراء الجهادية لطالما اعتبروها ظاهرة خرجت من عباءة جماعة حسن البنا، لا سيما وفق التنظيرات القطبية (نسبة إلى سيّد قطب).
وفيما يتأقلمُ أخوان تونس مع شروط الراهن التونسي، يسعى إخوان ليبيا إلى تعظيم حصتهم في المشهد السياسي المقبل في ليبيا، وتتحسّن ظروف إخوان اليمن في تداعيات “عاصفة الحزم” المشنّة ضد خصومهم، ويتراجعُ وزن إخوان سوريا في التجليات الميدانية التي تحيلهم فصيلاً من ضمن عشرات الفصائل، ويستمرُ إخوان العراق في اللعب بانتهازية بين خطوط الانخراط في العملية السياسية أو التمرد عليها.
في رواج الجماعات الاسلامية وتكاثف حضورها تفسيراتٌ عدة. تخلو المنطقة من مشروع أيديولوجي بديل بعد سقوط المشاريع الاقليمية المحلية أو تلك اليسارية المستوردة، بالمقابل تنشطُ الإسلاموية آلياً عبر التاريخ بمجرد التنبه الى فراغٍ منافس، كما تنشطُ لأسباب لوجيستية مالية تسليحية لطالما راجت منذ حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي ومنذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران. ثم أن العواصم الإقليمية، كما الدولية، لطالما وجدت في الجهادية سبيلاً لتصفية حسابات في ما بينها في إطار الصراع التقليدي للأمم.
وفق هذه الحقيقة يتعاملُ العالم مع المنطقة. قيل أن دعمَ الغرب للإخوان المسلمين حكاماً للمنطقة بعد “ربيعها” كان يهدفُ إلى الاستعانة بإسلام “صديق” لضرب أو وأد إسلام خصم. لم تجد واشنطن مانعاً من سيطرة الإسلاميين على أفغانستان بديلاً عن هيمنة السوفيات، كما أنها لم تعارض سطوة طالبان على البلاد بعد ذلك، طالما أن ذلك لا يتناقضُ مع مصالحها. ووفق ذلك الافتراض يُمعنُ الغرب في مقاربة إسلاميي المنطقة وفق معايير لا علاقة لمصلحة شعوب المنطقة بها.
على أن خروج كل الإسلاميين نحو ميدان الصدام الكبير، وانكشاف كل الأوراق وأجندتها، أحال الخصومة بين الإسلاميين واللاإسلاميين حازمةً واضحةً على النحو الذي شهدته تونس ومصر وليبيا وسوريا، لكنها تبقى ملتبسة شائكة في العراق واليمن، حيث تبدو في البلدين أنها معركة بين إسلاميين ومذهبين تحت شعار استعادة أدوات الدولة وشروطها. وفي كل الأحوال وفي خضم وقائع الاحترام يتراجعُ خطاب الدولة المدنية، وتبدو وكأنها سعي ترفي لا يرقى إلى متطلبات المعركة المحلية بين سنّة وشيعية، كما لا يحاكي المعركة الراهنة بين إيران وخصومها.
وفي ضمور المدنية فكراً ومشروعاً وهدفاً، تحتلُ الجماعات قولاً وعملاً المشهد الجيواستراتيجي العام، على النحو الذي يجعلُ منها وقودَ المرحلة، لكنه سيحيلها أساساً في البناء في مراحل ما بعد الخراب. وفي ذلك الاستسلام تأجيلٌ مقلقٌ لحلم “الربيعيين” في قيام دول حديثة تحاكي شروط الحاضر كما شروط الحراك الساعي لقلب الاستبداد.
وإذا ما كان منطقياً أن وجوه الحرب هي التي تحتلُ مشهدَ الحرب، فإن على الورشة العاملة على التحضير لما بعد الأسد وما بعد الحوثيين وما بعد الاختلال في ليبيا والعراق…إلخ، أن تقدّم بديلاَ مقنعاً يطيحُ بقدر الجماعات حضوراً وخطابا ونفوذا. والخوف كل الخوف أن يثبتَ أن المنطقة ما زالت غير جاهزة لقيام دول بالمعنى الحديث، على النحو الذي يجعلُ المنطق الجماعاتي مبررا يوفر ديمومة تحت شعار أن المسألة قدرية متصلة بتراث وثقافة لا مفر منهما. الأمر مرفوض وليس من الحكمة الانتقال من عصر المطحنة إلى عهد التحضير لمطاحن أخرى.
صحافي وكاتب سياسي لبناني