بعد مرور سنین من العناد والإصرار علی مواصلة الأنشطة الخفیّة والعلنیة الذریة التي دفعت بالمجتمع العالمي للتشاؤم بالنسبة للأهداف الحقیقیة للجمهوریة الاسلامیة من هذه الأنشطة، وفي أعقاب أکثر من عشر سنین من المفاوضات غیر المثمرة وعدیمة الجدوی مع البلدان الغربیة، اضطرّت الجمهوریة الإسلامیة من موقف ضَعفٍ وموقعٍ هشٍّ جداً، إلی اتخاذ قرارٍ بالتراجُع والانسحاب، لکي یتسنّی حلّ المسألة الذریة، وأن تستعدّ لقبول الشروط التي حدّدتها دول مجموعة 1+5 (الأعضاء الخمسة الدائمین في مجلس الأمن الدولي بالاضافة إلی ألمانیا).
وللحقیقة فإن الضغط الذي یسببّه الحظر الاقتصادي وبخاصة حظر شراء البترول من إیران الذي أعلنه الاتحاد الأوروبي والذي بدأ بتنفیذه في یولیو/ تموز 2012م، وأیضاً الضغط الذي سبّبه الحظر البنکي الذي فُرِضَ فیما بعد، کل ذلک ورَّطَ الجمهوریة الإسلامیة في أوضاعٍ بحیث لا یمکنها دَفع مرتّبات العاملین في الحکومة. کما أنها أصبحت هذه السنة عاجزة عن دَفع الإعانات النقدیة الحکومیة للمواطنین (للمساعدة في تغطیة ارتفاع أسعار السلع الأساسیة والمواد المعیشیة).
ونشیر هنا إلی أن هذه الأزمة الاقتصادیة التي تعصف بالجمهوریة الإسلامیة، سوف تتسبّب في أن یواجه نظام طهران إن عاجلاً أو آجلاً، عصیاناً وثورة شعبیة عارمة للشعب الجائع، ویتعرَّض کیانه للخطر المُحدِق.
الجدیر بالذکر أنه منذ أن تولّی محمود أحمدي نجاد رئیس الجمهوریة الإسلامیة السابق مهامه قبل ثماني سنوات، تصرّف بقسوة واستعلاء، وداس بقدمیه الاتفاق الذي کانت قد توصَّلت إلیه حکومة محمد خاتمي السابقة مع دول مجموعة 1+5 حول تعلیق تخصیب الیورانیوم. لکن حکومة أحمدي نجاد بدأت بتکثیف الأنشطة الذریة. وفي هذا الإطار وجّهت الوکالة الدولیة للطاقة الذریة ومجموعة 1+5 التحذیر إلی الجمهوریة الإسلامیة وطلبتا منها إیقاف تخصیب الیورانیوم بنسبة 20%، ومَنح الإذن لتفتیش محطات تولید الطاقة الذریة في إیران، لکي تُشرِف الوکالة الدولیة علی جمیع الإنشطة الذریة.
لکن حکومة احمدي نجاد السابقة؛ وبتأیید ودَعمٍ من مرشد النظام علي خامنئي، لم تُبدِ أي اهتمام بهذه التحذیرات، وظلَّت تواصِل بعناد وإصرار أنشطتها الخفیّة، والتي أدّت في النهایة إلی صدور أربعة قرارات من مجلس الأمن الدولي لفَرض الحظر ضد إیران. ولکن نظراً لأن حکومة الجمهوریة الإسلامیة لم توافق علی تغییر سلوکها وسیاستها، فقد بادرت الولایات المتحدة الأمریکیة وسائر الدول الغربیة إلی فَرض أنواع الحَظر المُضاعف بصورة مستقّلة ضد نظام طهران، وکانت لها آثار سیّئة جداً بحیث اضطرّت الجمهوریة الإسلامیة ومن موقع ضَعف، إلی التراجُع والمصالحة.
هذا ویعتقد الکثیر من المراقبین بأن فوز حسن روحاني بمنصب رئاسة الجمهوریة، والذي تمّ بدعَم وتأیید دعاة الإصلاحات والکُتَل ذات الاتجاه المعتدل المتعاونین مع النظام الحاکم، کان بهدف حلّ المشکلة الذریة، وتهیئة الجو لکي یتمّ إلغاء الحظر المفروض علی الجمهوریة الإسلامیة.
تجدر الإشارة هنا إلی أن روحاني کان في فترة رئاسة محمد خاتمي للجمهوریة، یتولّی مسؤولیة التفاوض مع الدول الغربیة، واستطاع أن یتوصَّل إلی اتفاق في هذا المجال، ویقوم بتعلیق الأنشطة الذریة الإیرانیة بصورة تطوّعیة، ویزیل التوتُّر في روابط بلاده مع الدول الغربیة.
والآن لو تقرّر أیضاً أن یتراجَع المرشد خامنئي عن موقفه المعانِد، فإن هذا الإجراء یجب أن یتمّ عبر شخصیّة کروحاني.
هذا وکان حسن روحاني قد وعد في تصریحاته الانتخابیة بأنه سوف یحلّ المشکلة الذریة. ولهذا السبب فإن أولی مبادراته علی المستوی الدولي خلال زیارته لنیویورک للمشارکة في جلسات الجمعیة العامة للأمم المتحدة، کانت تهیئة الأجواء للتباحُث مع دول مجموعة 1+5 التي تمّت الجولة الأولی من المفاوضات معها في جنیف مؤخراً، ومن المقرّر أن تُعقد الجولة الثانیة في مطلع شهر نوفمبر/ تشرین الثاني 2013م.
هذا وفي الجولة الأولی من المفاوضات بین ممثّلي الجمهوریة الإسلامیة وممّثلي دول مجموعة 1+5 والتي انعقدت في جنیف لمدّة یومین، وصف الجانبان وبخاصة أمریکا، تلک المفاوضات بأنها کانت «إیجابیة وبنّاءة»، لکن هناک طریقاً طویلاً ینبغي سلوکة حتی یتم التوصُّل إلی اتفاق.
المشکلة الذرّیة، والعلاقات مع أمریکا
وقبل أن نتناول موضوع مفاوضات جنیف والنتائج التي تمّ التوصُّل الیها، من الضروري أن تتم الإشارة هنا إلی مسألةٍ هامةٍ جداً وهي أن التراجُع بشأن المشکلة الذریة، وربّما إیقاف ممارسة أنشطتها، والموافقه علی شروط دول مجموعة 1+5 التي تتضمّن تعلیق عملیات تخصیب الیورانیوم، ونَقل المخزون من الیورانیوم المُخصَّب بنسبة 20% في إیران إلی الخارج، وإیقاف الأنشطة في مفاعل الماء الثقیل في مدینة أراک، کلها أمور لن تکون سهلة للجمهوریة الإسلامیة التي أنفقت حتی الآن ملیارات الدولارات علی البرامج الذریة من «بیت مال» الشعب الإیراني الذي یشعر بخُلُوّ موائده من الطعام.
وبالإضافة إلی ذلک فقد تحمّلَ المواطنون ضغوطاً قوّیة جداً خلال هذه السنین بسبب الحظر الدولي المفروض علی الجمهوریة الإسلامیة، ولا یزالون یجتازون حیاةً صعبة للغایة.
والآن وبعد تلک التصریحات الاستعلائیة والعناد غیر الضروري، کیف یمکن إقناع الشعب بأن النظام الحاکم قرّر فجأةً التَراجُع وإیقاف أنشطته الذریة. لکن بعض الکُتَل من المتطرّفین السیاسیین لا یزالون یطالبون بمواصلة الأنشطة الذریة.
إلاّ أن استمرار هذا الوضع، ومواصلة الأنشطة الذریة لم یتسبب فقط في تکثیف أنواع الحظر ضد إیران، بل یمکن أن یتبعه خطر هجوم عسکري أیضاً. لذلک فإن الجمهوریة الإسلامیة مضطرّة إلی التراجُع عن موقفها العنید مهما کلّف ذلک.
ونظراً لأن الولایات المتحدة الأمریکیة تتصدَّر دول مجموعة 1+5 فإن بإمکانها أن تفرض المزید من الحظر علی إیران، کما أعلنت أنها لا تزال تحتفظ بالخیار العسکري کآخر وسیلة للحلّ، لذلک فإن انسحاب الجمهوریة الإسلامیة من موقفها المعاند في القضیة الذریة، یعني إزالة التعویذة الموجودة علی طریق استئناف العلاقات مع أمریکا، ولهذا فإن الجمهوریة الإسلامیة مضطرّة بعد مضّي 34 عاماً، إلی أن تتخذ موقفاً سلمیّاً أمام أمریکا.
الجدیر بالذکر أن مسألة إقامة العلاقات مع الولایات المتحدة، والسعي لتحسین الروابط معها بعد ثلاثة عقود من العداء ومن إطلاق هتاف «الموت لأمریکا»، ثم تبریر هذا التراجُع للشعب والمجتمع الإیراني، هو أصعب جداً من تبریر التراجُع والانسحاب في المسألة الذریة.
ولهذا السبب تُولي الجمهوریة الإسلامیة اهتماماً أکبر لقضیة إقامة العلاقات مع أمریکا، یفوق اهتمامها بالنسبة للمشکة الذریة. لذلک فهي تحاوِل المبالغة والتضخیم حول ضرورة استئناف الروابط مع أمریکا لکي یُصبِح الاتفاق حول القضیة الذریة سهلاً جداً.
هذا وتجدر الإشارة إلی أن غالبیة الشعب الإیراني لا تطالب فقط بحَلّ المشکلة الذریة (التي تسبّبَت بالکثیر من المُعاناة والمشقّة والحرمان). ولکنها تطالب أیضاً بتحسین العلاقات مع أمریکا. فالجیل الإیراني الیوم، لیس کالجیل الثوري الذي کان قبل 34 عاماً، یعتبر أمریکا أکبر عدوّةٍ لإیران، حسب تعلیمات الیساریین آنذاک، حیث تَسلَّق جمع من المنتمین لذلک الجیل جدار السفارة الأمریکیة في طهران، واحتجزوا الدبلوماسیین الأمریکیین کرهائن لأکثر من عام.
فالمجتمع الإیراني الیوم یرید إقامة علاقات جیدة مع جمیع البلدان ومن ضمنها مع أمریکا. کما أن عملیة استطلاع الآراء التي أجراها أحد المواقع علی شبکة الإنترنت أفادت بأن 80% من المواطنین الإیرانیین یطالبون باستئناف العلاقة مع الولایات المتحدة الأمریکیة.
ولکن خلافاً لهذا الطلب الشعبي، فإن التکتّلات والمجموعات المتعاونة مع النظام الإسلامي قد انقسمت إلی قسمین إزاء قضیة العلاقات مع أمریکا: المجموعات ذات الاتجاه المعتدل ودعاة الإصلاحات تعتقد بأنه یجب التخلّي عن العداء ضد أمریکا، وأن یتم تحسین العلاقات معها.
أما المجموعات المتطرّفة والمتزمتة وهي القوات التعبویة والمیلیشیات والجماعة المنتمیة لحزب الله والملالي، فلا تزال تُصِرّ علی مواصلة العداء ضد الولایات المتحدة، وتعتقد بأن أمریکا تواصل حالیاً الانهیار، وسوف تبادر الجمهوریة الإسلامیة في نهایة المطاف إلی إیقاع الهزیمة بها. واستناداً إلی هذه الخلافات في وجهات النظر، فإن ما اتّخذه روحاني في الولایات المتحدة الأمریکیة من إجراءات، واجهت ردود فعلٍ متباینة. فقد أعلن البعض عن تأییدهم له، فیما تهجّم علیه المتطرّفون.
هذا وخلال زیارة حسن روحاني لنیویورک، عَرض المذکور صورة للجمهوریة الإسلامیة وکأنها دولة مُسالمة وتدعو للسلام مع دول العالم، وأعلن أن نظام طهران یطالب بإجراء الحوار لحلّ المشکلة الذریة. کما أن الخطاب الذي ألقاه روحاني في الجمعیة العامة للأمم المتحدة وتصریحاته في مقابلاته الصحفیة، لقیت ترحیب المسؤولین في الإدارة الأمریکیة ووسائل الإعلام الدولیة.
لکن أهم خطوة اتّخذها رئیس الجمهوریة، کانت حواره الهاتفي مع الرئیس الأمریکي باراک أوباما لمدة 15 دقیقة، أي أنه في الحقیقة أزالَ بذلک «التعویذة» التي کانت تمنع إقامة الإتصال مع أمریکا. ولقد تلقّت الأوساط السیاسیة والصحفیة تلک الخطوة باعتبارها کانت هامة جداً.
وفي مستهلّ انعقاد جلسات الجمعیة العامة لمنظمة الأمم المتحدة، انتشرت إشاعات أفادت بأن حسن روحاني سوف یلتقي مع باراک أوباما علی هامش تلک الجلسات. لکن البیت الأبیض، وأیضاً مکتب رئیس الجمهوریة أعلنا أنه لم یتم إعداد أي برنامج للقاء الرئیسین لا عبر التخطیط، ولا بشکل تلقائي ومن غیر قَصد. ولکن ومع ذلک بادر حسن روحاني إلی إجراء حوارٍ هاتفي مع أوباما حین کان في الطائرة یستعدّ للعودة إلی طهران.
هذا ویدّعي الإیرانیون بأن هذه المکالمة الهاتفیة جرت بطلبٍ من أوباما، لکن البیت الأبیض اتّخذ موقف الصمت في هذا المجال. وعلی أي حال فالمهم هو إنه بعد مرور 34 عاماً علی سیطرة العناصر الثوریة المتطرّفة علی السفارة الأمریکیة في طهران، واحتجاز الدبلوماسیین الأمریکیین کرهائن، والعداء المستمر بین البلدین، أجری رئیسا البلدین مکالمة هاتفیة. ویمکن احتساب هذه المبادرة علی أنها کانت في صالح رئیس الجمهوریة الذي نجح في إزالة الحظر الذي کان مفروضاً علی إعادة الصلة بین البلدین.
تجدر الإشارة إلی أنه حین عاد روحاني إلی إیران، رحب به جمع غفیر من الإیرانیین الذین أشادوا بالمکالمة الهاتفیة التي أجراها مع أوباما. ولکن حین وصوله في المطار قامت مجموعة قلیلة العدد بتحریض من جماعات الضغط بإطلاق الهتاف الدائم «الموت لأمریکا»، کما قذف أحدهم بحذائه نحو سیارة روحاني.
وعلی أية حال فإن مثل هذه الحرکات، لن تُقَلِّل من أهمیة مهّمة روحاني، فغالبیة الشعب الإیراني تعتقد بأنه لو اُقیمت العلاقات مع أمریکا، فإن الجمهوریة الإسلامیة ستکون مضطرّة علی للالتزام بالقوانین الخاصة بحقوق الإنسان والحریات الأخری والتي سوف تکون في صالح الشعب الإیراني. وبالإضافة إلی ذلک فإن استئناف العلاقات مع الولایات المتحدة الأمریکیة سیؤدّي إلی تحسین الأوضاع الاقتصادیة في إیران أیضاً.
موقف خامنئي المزدوج
خلال سفره إلی نیویورک وفي حواره مع مراسلي الصحف، أعلن حسن روحاني أن لدیه تفویضاً شاملاً للحوار في المسألة الذریة وسائر المسائل. وکان هذا یعني بأن المرشد خامنئي (الذي یتولّی تعیین السیاسات العامة للنظام) قد أطلق لروحاني الحریة للتباحث مع مسؤولي الدول الغربیة، واتخاذ أي قرارٍ ضروري.
وقبل ذلک کان سعید جلیلي؛ أمین مجلس الأمن الوطني الإیراني وکبیر مفاوضي الوفد الذرّي الإیراني سابقاً، یُجري مفاوضات في کل مرّة مع دول مجموعة 1+5،کان علیه أن یرسل رسالة موجَّهة بسرعة إلی بیت مرشد النظام، وذلک لکي یتلقّی التوجیهات اللازمة لمواصلة التفاوض.
لکن حسن روحاني کان لدیه هذه المرّة تفویض شامل، ولذلک تصرَّفَ المفاوضون الإیرانیون بحرّیة خلال المفاوضات التي جرت في جنیف.
أما بعد عودة روحاني إلی إیران، وبعد أن قدَّم تقریراً للشعب الإیراني عن وقائع سفره إلی نیویورک عبر المقابلات التي أجرَتها الصحف معه، اتّخذ المرشد خامنئي موقفاً مزدوجاً إزاء تصریحات روحاني، مما یدلّ علی أنه یرید إرضاء الکتلتین الموافقة والمعارضة لروحاني، ویرید أیضاً أن یحافظ علی قدرته للمناورة في المستقبل.
ففي جمعٍ من العسکریین، ألقی خامنئي کلمة قال فیها: إننا نؤیّد وندعم الإجراءات التي تتّخذها الحکومة. ولکن وبالرغم من تأییدنا لجمیع الإجراءات التي اتُّخِذَت في نیویورک، فإن بعض المسائل التي حدثت، لم تکن مناسبة.
وأضاف خامنئي قائلاً: إننا نأمل الکثیر من حکومتنا، لکننا لا نثق بالإدارة الأمریکیة وبوعودها.
إن أهداف خامنئي من هذه التصریحات واضحة جداً. إنه قام بتأیید المحادثات التي أجرتها حکومة روحاني مع دول مجموعة 1+5 وتأیید المقترحات الذریة الإیرانیة. ولکن وفي الوقت نفسه انتقد الحوار الذي أجراه روحاني مع الرئیس الأمریکي أوباما حیث وصف خامنئي الإدارة الأمریکیة بأنها لیست موضع ثقة.
وهکذا ودون أن یشیر خامنئي إلی الموقف المتخاذل للجمهوریة الإسلامیة في المسألة الذریة، وتراجُعها عن مواقفها السابقة، أراد أن یتّخذ موقفاً قویّاً أمام الولایات المتحدة، ویدفع القضیة الذریة إلی الظِّل.
ومن جهة أخری فإن خامنئي یعلم جیداً أن بعض التکتلات التابعة للنظام الإسلامي تُعارِض إقامة العلاقات مع أمریکا، في حین هناک الکثیرون الذین یطالبون بتحسین العلاقاتها معها. وعلی هذا الأساس اتّخذ خامنئي موقفاً مزدوجاً کي یکون بإمکانه إذا ما أراد أن یؤیّد أحد تلک التکتّلات.
إن مشکلة خامنئي في الوقت الراهن هي النجاة من ضغوط الحظر الدولي المفروض علی الجمهوریة الإسلامیة ولیست العلاقات مع أمریکا، ولذلک فلو اجتاز هذه المشکلة، فإنه قد یستأنف العداء ضد أمریکا.
مؤتمر جنیف ـ المحادثات والوفاقات
جرت المحادثات بین ممثّلي الجمهوریة الإسلامیة وبین ممثّلي دول مجموعة 1+5 في جنیف بسویسرا في یومي 15 و 16 أکتوبر/ تشرین الأول 2013م، وسط جَوٍّ من التفاؤل. وقد قَیَّم الجانبان هذه المحادثات بأنها کانت «إیجابیة ومفیدة». وفي هذا الصدد أعلن البیت الأبیض أن المشروع المُقترح الإیراني الجدید «کان جادّاً ویستحق الدراسة».
وخلافاً للجولات السابقة من المفاوضات حیث کان یشارک فیها من إیران: أمین مجلس الأمن الوطني الإیراني وعدد من مسؤولي الأجهزة الأمنیة. أما في محادثات جنیف التي انعقدت مؤخراً، فقد شارک مساعد وزارة خارجیة الجمهوریة الإسلامیة ومجموعة من الدبلوماسیین الإیرانیین.
تجدر الإشارة إلی أن حسن روحاني رئیس الجمهوریة کان قد کلَّف وزارة الخارجیة بأن تتولّی کافة الشؤون المتعلّقة بالمشکلة الذرّیة بَدلاً من مجلس الأمن الوطني الإیراني، لکي یتمّ حل هذه المسألة مع الأخذ بنظر الاعتبار النُظُم والمتطلّبات والروابط السیاسیة «ولیست الأمنیّة».
هذا ونظراً للظروف السائدة حالیاً، والضغوط التي تُمارَس علی الإدارة الأمریکیة (من قبل أعضاء الکونغرس وحکومة إسرائیل) لمنع استحواذ إیران علی السلاح الذرّي، یمکن القول بأن هذه هي آخر فرصة لدی الجمهوریة الإسلامیة لکي تَحوُل دون اندلاع عملیات عسکریة عسکریة محتملة ضدّها، ولکي تقوم بحلّ وتسویة المسائل عبر الطرق الدبلوماسیة.
وفي هذا المجال أعرب «مایکل مان» المتحدّث باسم «کاترین أشتون» (المسؤولة عن السیاسة الخارجیة في الاتحاد الأوروبی) علی هامش المفاوضات الذریة في جنیف، عن أمله في أن تکون الجولة الجدیدة من المباحثات مُنعَطفاً أساسياً لتحقیق التقدُّم عَبر السبل الدبلوماسیة في مواجهة الجمهوریة الإسلامیة.
هذا وأفادت وکالة انباء «إیسنا» الإیرانیة بأن «مایکل مان» وخلال حواره مع الشبکة الإخباریة «یورونیوز»، وفي ردّه علی هذا السؤال: «ماذا تتوقّعون من طهران؟» قال: إن ما یجب أن تؤکّده إیران هو إثبات هذا الموضوع للمجتمع الدولي وهو أنّها لا ترید تحقیق أي برنامجٍ تسلیحي ذرّي. وإن هذه المسألة یجب أن تتمّ علی أساس الاتفاق معنا، ثمّ أن یُمنَح الإذن للمفتّشین الدولیین لإثبات ذلک.
وأضاف «مایکل مان» المتحدّث باسمٍ کاترین اشتون قائلاً: نحن نأمل بأن یبادر الوزیر الجدید الی تبدیل تصریحاته وأقواله إلی أفعالٍ وأعمال. فمنذ انتخاب رئیس الجمهوریة الإسلامیة الجدید، سمعنا أشیاء کثیرة من الجانب الإیراني، ولکن لم نشاهد حتی الآن أیّة ورقة عمل تحتوي علی تفاصیل أي اقتراح.
هذا وواصل «مایکل مان» تصریحاته قائلاً: إن الجولات الخمس السابقة من المفاوضات لم تکن ناجحة، لأن الجمهوریة الإسلامیة لم تکن علی استعدادٍ للتعامُل معنا. ولکن لو تقدَّم وفد التفاوض الإیراني باقتراحات ملموسة وبنّاءة وقام بتنفیذها، فعند ذاک من الممکن أن تتحوَّل هذه المفاوضات إلی نقطة انطلاق أساسیة. ولکن من الضروري ألا نخطئ، وألا نخدع أنفسنا. علماً بأن هذه القضیّة سوف تکون صعبة جداً، لأن ما نقوم به هنا، مُعَقَّد للغایة.
ومن جهة أخری بادر جمع من أعضاء مجلس الشیوخ الأمریکي إلی إرسال رسالة إلی باراک أوباما قبل یومٍ من بَدء المفاوضات بین الجمهوریة الإسلامیة ودول مجموعة 1+5، حَذّروا فیها الرئیس الأمریکي من أن التعلیق المؤقّت لأنواع الحظر الجدید والإضافي ضد الجمهوریة الإسلامیة، سوف یکون ممکناً لو بادر نظام طهران إلی تغییر أسلوبه وموقفه.
واستناداً إلی تقریر وکالة رویترز للأنباء فإن هذه الرسالة التي قام بتوقیعها عشرة من أعضاء مجلس الشیوخ الأمریکي من الدیمقراطیین والجمهوریین،
تنصّ علی أن الولایات المتحدة وسائر الدول ینبغي في الخطوة الأولی أن تتوصّل إلی اتّفاق مع إیران ینصّ علی «التعلیق في مواجهة التعلیق». ولإیضاح هذه العبارة، یقول الشیوخ في رسالتهم إنه علی أساس هذا الاتفاق المبدئي، ینبغی أن تبادر الجمهوریة الإسلامیة بإیقاف تخصیب الیورانیوم، وفي المقابل تقوم واشنطن بتعلیق تنفیذ الحظر الجدید ضد نظام طهران.
وأکدّ أعضاء مجلس الشیوخ الأمریکي العشرة في رسالتهم التي بعثوها إلی أوباما، علی أن طهران یجب أن تتعاون مع الوکالة الدولیة للطاقة الذریة، وأن تُنَفِّذَ کافة التزاماتها التي تخصّ معاهدة منع انتشار الأسلحة الذریة، والقرارات التي أصدرها مجلس الأمن الدولي ومن ضمنها التعلیق التام لعملیات تخصیب الیورانیوم.
وجاء في رسالة أعضاء مجلس الشیوخ إنه لو بادرت حکومة الجمهوریة الإسلامیة إلی تنفیذ مثل هذه الإجراءات بطریقة شفّافة، فإنّ الموقعین علی الرسالة سوف یعوّضون عن النوایا الحسنة لنظام طهران ویقومون بتعلیق فرض المجموعة الجدیدة من الحظر الموجودة حالیاً قید الدرس في الکونغرس. وأکدّ أعضاء مجلس الشیوخ الأمریکي العشرة علی ضرورة إبقاء خیار «التهدید العسکري» علی الطاولة.
هذا وکانت دول مجموعة 1+5 قد عرضت شروطاً في المفاوضات التي جرت في کازاخستان في العام الماضي، وطلبت من الجمهوریة الإسلامیة تنفیذها، لکن نظام طهران رفض تلک الشروط.
فدول 1+5 کانت تدعو النظام الإسلامي الحاکم في إیران إلی إیقاف تخصیب الیورانیوم بنسبة 20%، وأن تقوم بنَقل المخزون من الیورانیوم المخصَّب بنسبة 20% في إیران إلی خارج البلاد تحت إشراف الوکالة الدولیة للطاقة الذریة (لکي یتم استبداله في روسیا وفرنسا إلی صفائح وقضبان الوقود وإعادتها إلی إیران)، وأن تقوم بتعلیق فعالیات محطة إنتاج الطاقة الذریة في منطقة «فَردو» القریبة من مدینة قُم، وأن تقوم بإیقاف الأنشطة الخاصة بإنتاج مادة البلوتونیوم في المفاعل النووي الخاص بالماء الثقیل في مدینة أراک.
والآن أیضاً عَرضت الدول الغربیة نفس الشروط المذکورة أعلاه، لکن المسؤولین في الجمهوریة الإسلامیة یبدون وجهات نظرٍ متباینة في هذا المجال. فقد قال علي لاریجاني رئیس مجلس الشوری الإسلامي إن حجم الیورانیوم المُخصَّب بنسبة 20% المخزون في إیران هو أکثر من حاجتنا إلیه، لذلک فإن من الممکن التباحُث حول نَقل جزءٍ منه إلی الخارج.
في حین یقول عباس عراقجي مساعد وزارة الخارجیة وکبیر المفاوضین الإیرانیین: إن نَقل المخزون من الیورانیوم من إیران إلی الخارج، یعني العبور من الخط الأحمر، وأن الجمهوریة الإسلامیة ترفض ذلک.
وفي هذا الإطار قال بعض المسؤولین العسکریین إن نظام طهران لا یوافق علی أي شرطٍ من شروط الدول الغربیة.
ولکن خلافاً لوجهات النظر المذکورة أعلاه، فقد تقدّم فریق التفاوُض الذري الإیراني باقتراحات وصفتها الدول الغربیة بأنها «مفیدة وبنّاءه». هذا وکانت الجمهوریة الإسلامیة قد أعلنت منذ البدایة أنها سوف تقترح خطّة ذات ثلاث مراحل بحیث تضمن مصالح الجانبین.
الجدیر بالذکر أنه لم تتوضَّح المقترحات الإیرانیة وما تشملها من مسائل. إلاّ أن «محمد جواد ظریف» وزیر خارجیة الجمهوریة الإسلامیة کان قد قال: إننا نحتفظ بتفاصیل المفاوضات والاتفاقات بصورة سرّیة حالیاً.
إن ما یقوله محمد جواد ظریف قد یکون منطقیّاً. ففي الکثیر من الاتفاقیات الدولیة لا یتمّ کشف النقاب عن المسائل المطلوبة، إلاّ حین تِصل المفاوضات إلی المرحلة النهائیة. لذلک ینبغي الانتظار حتی الجولة القادمة في مطلع شهر نوفمبر/ تشرین الثاني الجاري.
ولکن وبالرغم من عدم وضوح الرؤیة حول ما توصَّل إلیه الجانبان من الاتفاقات، فإن أنباءً من داخل جلسة المفاوضات وصلت إلی نشرة «أل مونیتور» تستحقّ الدراسة.
فقد ذکرت هذه النشرة بأن المقترحات الإیرانیة تشمل بعض المسائل من ضمنها: إیقاف عملیات تخصیب الیورانیوم ـ الوعد بتبدیل المخزون من الیورانیوم المُخَصَّب بنسبة 20% الموجود في إیران إلی قضبان الوقودـ التخلّي عن الیورانیوم المُستَهلَک في مفاعل الماء الثقیل الذي کان قد تقرَّر أن یتمّ بناؤه في مدینة «أراک».
وفي هذا الإطار تَدّعي نشرة «أل مونیتور» بأنها استلمت هذه المعلومات من مصدرٍ إیراني کان قد أثبت أصالته وصِدقه في الماضي.
إن هذه الالتزامات، إلی جانب موافقة الجمهوریة الإسلامیة علی زیادة عملیات التفتیش التي تتوَلاّها الوکالة الدولیة للطاقة الذریة، سوف تؤدّي إلی أن یتمکّن العالم الغربي من الحصول علی الثقة والاطمئنان بأن نظام طهران لن یهرع فجأة نحو صُنع السلاح الذري.
هذا وکان المصدر الإیراني الذي طلب عدم الکشف عن اسمه بسبب دعوة الجانب الإیراني لإبقاء المفاوضات في جنیف سرّیة، قد قال لنشرة «أل مونیتور» إن وزیر خارجیة الجمهوریة الإسلامیة عَرضَ اقتراحه في إطار مرحلتین، تستغرق کل مرحلة فترة ستّة شهور ففي المرحلة الأولی تبادر إیران إلی إیقاف إنتاج الیورانیوم المخصَّب بنسبة 20%، وتسعی لتبدیل مخزونها إلی «قُضبان الوقود» لتزوید المفاعل الذري الخاص بالتحقیق والبحث العلمي في طهران بها.
ولقد قامت إیران حتی الآن بتبدیل جزءٍ من الـ 370 کیلوغراماً من الیورانیوم المُخَصَّب بنسبة 20% المخزون لدیها، إلی قضبان الوقود. کما خصّصت المتبقّي من هذا المخزون لهذا الغرض أیضاً. ولکن هناک شکوکاً حول مقدرة إیران التقنیّة علی تنفیذ هذا الأمر.
واستناداً إلی هذه المصادر، هناک قطاعات أخری تتضمّنها المقترحات الإیرانیة وهي:
ـ عَرض الکثیر من المعلومات حول مفاعل الماء الثقیل في مدینة «أراک»، من ضمنها السماح للوکالة الدولیة للطاقة الذریة للإشراف علی بناء هذا المفاعل الذي تأخّر مراراً. وقد تمّ أخیراً التخطیط لاستکمال المفاعل في نهایة عام 2014م.
أما في الماضي فقد کان وصول الوکالة الدولیة لتَفقُّد هذا المفاعل صعب المنال وغیر متیسِّر.
وقال هذا المصدر إنه یمکن حین استکمال بناء هذا المفاعل، التوصُّل إلی اتفاقٍ مع الوکالة الدولیة لکي تتولّی الإشراف علی الوقود المُستَهلَک في المفاعل. وسوف یحتوي الوقود المُستَهلَک علی مادة البلوتونیوم التي تُستَخدم في صُنع القنبلة الذریة وسیکون هذا الاتفاق مماثلاً للاتفاق الذي عقدته الجمهوریة الإسلامیة مع روسیا حیث یعید نظام طهران بموجبه الوقود المُستَهلَک في مفاعل بوشهر (في جنوب إیران) إلی روسیا.
ـ الإشراف العام علی منشآت تخصیب الیورانیوم في منطقة «فَردو» القریبة من مدینة قُم حیث سوف تتحوَّل تلک المنشآت إلی مرکزٍ للبحوث والتحقیقات. کما سیتمّ التفاوض بشأن تقیید معدّل التخصیب في المنشآت الذریة في منطقة نَطَنز.
ـ المصادقة علی البروتوکول الملحَق بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة الذریة وأسلحة الدمار الشامل، والذي سوف یُوَفِّر إمکانیة القیام بعملیات التفتیش المباغِت.
تجدر الإشارة هنا إلی أن ممثّلي الجانب الآخر لم یردّوا علی أسئلة نشرة «أل مونیتور» حول تفاصیل مقترحات الجمهوریة الإسلامیة، وأشاروا إلی أنهم تعهَّدوا بالحفاظ علی سرّیة المباحثات في هذه المرحلة الحسّاسة.