في ملامحِ هلاله الشيعي، كان في ذهن ملك الأردن هذا التبدلُ في المزاج الحاكم في بغداد التابع لإيران، وتلك السطوة التي تمتلكها طهران على نظام دمشق، وذلك التمدد الذي يمثّله نفوذ حزب الله على الحدود مع إسرائيل وعلى شواطئ المتوسط، وعلى حكومة بيروت بالمحصلة.
في تفصيلِ الحدث الحوثي في اليمن، وفي الإطلالة خلال الأيام المقبلة على اتفاق بين إيران والقوى الكبرى حول برنامجها النووي، يبدو “هلال” العاهل الأردني أقل توصيفا مما أنجزنه إيران من اختراقات موجعة في الجسم العربي العام. تتقدمُ إيران، بصفتها أمرا واقعا، سواء أعجبنا ذلك أو مقتْناه، ويطلُ الحدثُ الإيراني بصفته قدرا، بغضّ النظر عن امتعاض الممتعضين، وعن رفض نتنياهو داخل الكونغرس الأميركي لذلك.
من حذّر من هلال شيعي تسيطرُ عليه إيران، أرسل منذ أيام وزير خارجيته ناصر جودة (وهو نائب رئيس الوزراء الأردني أيضا) لزيارة العاصمة الإيرانية في ما عُدَّ مفاجأة تداولها المراقبون والمعنيون بشؤون الأردن كما شؤون إيران. نعم الأمر لافتٌ، يستحقُّ التأمل والبحث والتمحيص، ذلك أن لدى المملكة الهاشمية، في ما تملكه من علاقات عتيقة تاريخية مع عواصم الغرب، لا سيما مع واشنطن، من المعطيات، ما يدفعها إلى التعجّل في احتلال مقعد متقدّم في ورشة التحوّلات المقبلة في كل منطقة الشرق الأوسط. وفي اجتماع وزير الخارجية الأميركي جون كيري بنظرائه الخليجيين الخميس الماضي، تبليغُ الإدارة الأميركية لحلفائها بأن الاتفاق مع خصمهم الإيراني أصبح ناجزا، وأن تطمينات كيري الدبلوماسية تنطوي على دعوة للتعامل مع “الأمر الواقع”.
ينتمي الأردن إلى مجموعة الملكيات العربية التي تناكفت باستمرار مع نظام الجمهورية الإسلامية في إيران. فإذا ما كان الموقف الخليجي تقليديٌّ تكرره بيانات اجتماعات دول مجلس التعاون، فإن المغربَ قطع علاقاته الدبلوماسية مع طهران (مارس 2009)، فيما وقفت عمّان بقيادة الملك الراحل حسين بن طلال مع العراق في حربه الشهيرة ضد إيران (1980 – 1988). على ذلك لا يجب قراءة زيارة الوزير ناصر جودة لإيران بصفتها حدثا أردنيا لافتا فقط، بل علامة من علامات تحوّل في مقاربة العرب أيضا للشأن الإيراني (أعادت الرباط علاقاتها الدبلوماسية مع طهران في فبراير من العام الماضي)، وإن كانت علامات هذا التحوّل خجولة مرتبكة لا تُفرجُ عن خطٍّ بياني واضح.
في أوائل الشهر الجاري (3 مارس) توجه العاهل الأردني بخطاب للأردنيين يعلِمهم بأن المنطقةَ “تمر بأحداث غير مسبوقة”، ويذكرهم بـ“الدور المحوري” للأردن. ألقيَ الخطاب دون مناسبة تحت عنوان “خطاب للأسرة الأردنية الواحدة”، وفي طياته استشعار بـ”حدث” وإجهار بمهمة “محورية”. ذهبت الأقلام إلى الحديث عن دور أردني “هاشمي” فوق العادة في العراق، كما في سوريا (بعضهم تحدث عن توسيع المملكة)، فيما تخوَف المتخوّفون من أن تفيضَ الداعشية من منابعها العراقية السورية، باتجاه روافد أردنية. على أن مراقبة ليوميات الأردن، بداية من حدث زيارة جودة لطهران، سيفصحُ عن هوية الدور الذي ستلعبه عمّان بالأصالة عن الأردن، وربما، بالوكالة عن أطراف عربية أخرى، لا سيما في شكل العلاقة الجديدة مع إيران.
على أن “المبادرة” الأردنية في جانبها المفاجئ، تلاقي، ولو بشكل متأخر، مغريات إيرانية كبيرة كانت طهران قد عرضتها على عمّان قبل أعوام. يتذكرُ الأردنيون ما أعلنه السفير الإيراني في الأردن آنذاك، مصطفى مصلح زاده (نوفمبر 2012)، من استعداد بلاده لتزويد الأردن بالنفط، ولمدة ثلاثين عاما، وفق مبدأ المقايضة الذي كان معمولا به بين العراق والأردن في عهد الرئيس صدام حسين. أوضح زاده، حينها، أنه يمكن للأردنيين تسديد ثمن النفط الإيراني بمنتجات محلية، وكذلك من خلال السياحة الدينية لمقامات أهل البيت (يشتهر الأردن بانتشار عدد كبير من المقامات المقدسة لدى الطائفة الشيعية على أرضه، وهي متاحة للزوار العراقيين دون الايرانيين إلا ضمن ترتيبات خاصة). حينها تحفّظ الأردن على قبول العرض الإيراني، ونُقِلَ عن مصدر أردني أنه “لا توجد دولة تمنح شيئا مجانا لدولة أخرى دون مقابل”.
ربما خشي الأردن آنذاك من امتداد “الهلال الشيعي” إلى ربوعه، وربما أن أسبابا ذاتية داخلية معطوفة على شروط إقليمية دولية كانت تحول دون تطوير علاقات “غير طبيعية” بين “الجمهورية” و“المملكة”. فهل زالت أسباب الذات؟ وهل يتفهم الإقليم (وربما يدفع باتجاه) المقاربات الأردنية الجديدة؟
يأتي لقاءُ رئيس الدبلوماسية الأردني بالمسؤولين الإيرانيين، وعلى رأسهم الرئيس حسن روحاني، بعد حراك نشط جمعَ الملك الأردني بالملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز بالرياض، وبالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بالقاهرة. ويأتي لقاءُ طهران الأردني – الإيراني بعد أيام على القمة التي جمعت في الرياض الرئيس التركي رجب طيب بالعاهل السعودي. وعلى الرغم من إشارات الودّ التي صدرت عن العاصمة الأردنية تجاه الملك السعودي الجديد، فإن تقاريرَ إعلامية كانت سرّبت توجّسَ نخبة عمّان السياسية من تبدّل محتمل في بوصلة الرياض يطالُ ملفات عديدة (مصر، العراق، سوريا، مكافحة الإرهاب، ملف الإخوان)، كما من افتقاد تواصل “كيميائي” مع فريق الحكم الجديد في السعودية بعد رحيل شخصيات سعودية صديقة للأردن عن المشهد الحاكم في الرياض.
في طهران دعا جودة إلى “حوار إيراني مع الجامعة العربية”، أي مع النظام العربي الرسمي برمته. وفي طهران ردّ الرئيس روحاني بالدعوة إلى “تعاون مشترك لمكافحة الإرهاب”، على ما يبدو أنه مشتركٌ يمكن التأسيسُ عليه لقيام هذا الحوار المتوخى. وإذا ما صدقنا موقع ديبكا الإسرائيلي العسكري، فإن اللواء الشهير قاسم سليماني زار منذ أيام عمّان بدعوة من الجنرال فيصل الشوبكي مدير المخابرات العامة الأردنية، بما قد يعكس حجم التحوّلات الثنائية بين الأردن وإيران.
على أن المعلنَ من زيارة الوزير الأردني لإيران ما زال دون أن يُفصحَ عن وجهة واضحة يمكن البناء عليها، بيد أن أجواء الأردن ترفضُ التقليل من شأنها واعتبارها ردا لزيارة كان قام بها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف للأردن العام الماضي، بل أن إجماعا يسود عمّان (رغم التكتم على ظروفها) على استثنائية الحدث وما يمثّله من انعطافة لها مدلولاتها.
من المبكّر الحكم على خامة المقاربة الأردنية الجديدة باتجاه الحكم في إيران، في ما إذا كانت استباقا لمزاج خليجي قد تقوده السعودية بهذا الإتجاه، أم ردّ فعل أردني على أجواء تقلق عمّان في توجهات الرياض. فهل “قفز” الأردن صوب إيران يستطلعُ إمكانات الوصل بين طهران والرياض على ما يوحي به “الدور المحوري” لعمّان، أم سعيٌّ إلى توازن في خيارات إيرانية للأردن تقابل التبدّلات المحتملة للبوصلة السعودية (على ما لمّح بعض الإعلام المصري أيضا)؟ لن ننتظر كثيرا حتى ينجلي علم اليقين.
صحافي وكاتب سياسي