أضحى أمن النظام في طهران مرتبطا مصيرياً بعافية أداء الإسلام الشيعي في بغداد.
في خلفيات البيئة الإقليمية الدولية تحليلاتٌ ترى أن الإدارة الأميركية ذاهبةٌ إلى استعادة نفوذها بالعراق مقابل التنازل عنه في سوريا لصالح إيران وروسيا. في الشقّ الثاني من المعادلة ما أُعلن صراحة على لسان السيناتور الجمهوري الأميركي ليندسي غراهام (أكتوبر الماضي) في معرض استجوابه (في جلسة استماع داخل الكونغرس حول استراتيجية الحكومة الأميركية في سوريا) لوزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر ولأكبر رتبة عسكرية في الجيش الأميركي الجنرال جوزيف دانفورد. بنتيجة الاستجواب خلص غراهام إلى أن إدارة أوباما تعملُ في جنيف على تسليم مقاليد الأمر في سوريا لموسكو وطهران، ما يشكّل فشلاً للاستراتيجية الأميركية ضد داعش في المنطقة، حسب رأيه.
في الشقّ الأول من المعادلة تظهر الهمّة الأميركية جلية في إشرافها العسكري على معارك القوات العراقية ضد داعش، بحيث باتت أسماء جنرالات واشنطن تطغى على ذكرى جنرال إيران الشهير قاسم سليماني. ناهيك عن توافد الشخصيات الرسمية الأميركية (كيري آخرهم) بإيقاعات كثيفة صوب بغداد. وفي ظل المناسبة تعلن إيران رسمياً إرسال لواء من قواتها الخاصة إلى سوريا، فيما تعلن واشنطن عن تعزيز وجودها العسكري في العراق بالآلاف من عناصرها.
في الأمر مضاربةٌ كما في سوق الأسهم. فتلك المعادلة واردة وقلب نفس المعادلة وارد وفق مزاج السوق/الميادين. وعليه من المهم تأمل مداولات جنيف وخريطة المعارك في سوريا، كما تأمل ضجيج الحرب حول الموصل وضجيج الصراع السياسي في كواليس الحكم في بغداد. وعليه أيضاً وجب فهم التطورات اللافتة التي قلبت أمور السياسة العراقية البيتية رأساً على عقب في تطوّر يكاد يكون خارج كل حساب.
أن ينقلب برلمانيون على رئيسهم فيطيحون به في جلسة مثيرة للجدل، فذلك أن العملية السياسية برمتها تحت المجهر، وأن حكم ما بعد عام الغزو (2003) بات عاجزاً عن انتاج السلطة وإدارة تقاسمها. يخيّل للمراقب أن أهل الحكم يدافعون بشراسة عن فساد هذا الحكم، وأن الفساد لم يعد عاراً في قاموس السياسة في العراق، بل تقليداً يكاد يكون من ثقافة وممارسة وسلوك الساسة في عراق الراهن. والملفت أن الظاهرة مستشرية داخل مذهبية مستفحلة حوّلت الطوائف إلى حُماة لفاسديها دفاعاً عن “كرامة” الطائفة وحصّتها داخل النظام الأخطبوطي الحاكم في بغداد.
هذا في الظاهر، وهو ظاهر شرعي من حيث المطالبة بتخليص البلد من آفة الفساد التي نقلت العراق إلى مصاف الدول الأكثر فساداً في العالم (المرتبة 161 من أصل 168 دولة في مؤشر الفساد السنوي لعام 2015 الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية). لكن في المضمون سعيّ لإضعاف القبضة الإيرانية على مفاصل الحكم في العراق، ذلك أن “بدعة” حكومة التكنوقراط التي خرج بها رئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي، تنزع عملياً سطوة الأحزاب الدينية على وزارات البلد، وبالتالي تلغي النفوذ الذي تمتلكه طهران في بغداد من خلال تلك الأحزاب.
اعتقد العبادي أنه يستطيع أن يُخرج من معطفه تعويذة “مكافحة الفساد” كترياق محرّج لكل الطبقة السياسية في العراق. بدا واضحاً أن لتلك الطبقة مناعة يقيها أي إحراج، وأن تواطؤً يجمع كل من مرّ على حكومات البلد والمؤسسات التابعة لها في الغرف من المال العام، جعل التخاطب بين القوى السياسية العراقية يجري على مشترك، عابر للطوائف، مدافع عن نظام ما بعد صدام حسين، حتى بفساده وفاسديه.
تتحدث المعلومات عن توتّر بين طهران والمرجع الشيعي آيه الله السيستاني في النجف، وعن جفاء ما بين طهران والسيّد مقتدى الصدر، وعن مباركة من المرجعية (التحق بها الصدر) لمشروع العبادي لانتاج حكومة تكنوقراط بعيدة عن سلطة الأحزاب السياسية. كان لافتاً توقيت غضب الصدر ثم تحرّكه الميداني وأنصاره (المتأخر أشهراً عن حراك المجتمع المدني) في الاعتصام والتظاهر وتصعيده مطالباً بحكومة التكنوقراط، وكأنها جزءٌ من خطة يلعب داخلها دوره للحصول على المرتجى، فإذا ما حصل على ما يروم من العبادي، فإنه يوقف تحركه ويرفع اعتصامه، ويظهر أنه الرقم الأساسي في السياسة العراقية المقبل، وإذا ما حصل تراجع فهو يعود للشارع كما في تطورات الساعات الأخيرة.
تتحرك طهران بقوة معتبرةً أن ما يجول في بغداد لا يمسّ فقط النفوذ الإيراني في العراق، بل يهدد الشيعية السياسية في المنطقة برمتها. تستدعي طهران بارونات الأحزاب الدينية للتشاور، لا تستقبلهم في العاصمة الإيرانية، بل في العاصمة اللبنانية، على ما يرسله ذلك من رسائل لأولي الأمر حول موقع بيروت داخل الحدائق الإيرانية. لا يستقبلهم مرشد الثورة في إيران بل زعيم فرعها في لبنان، بما يعبّر عن حقيقة أن الشيعية السياسية بقيادة الحاكم في طهران أضحت شبيهة بما كان يعرف بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين العابر للحدود والمُسقط للاعتبارات السيادية والخصوصية للبلدان. أضحى أمن النظام في طهران مرتبط مصيرياً بعافية أداء الإسلام الشيعي في بغداد.
تواكبَ الصخب العراقي مع صدور “وثيقة الإصلاح” التي وقعها فؤاد معصوم وحيدر العبادي وسليم الجبوري وعمار الحكيم وأسامة النجيفي وصالح المطلق وهادي العامري وغيرهم والتي بديباجتها تؤكد طبيعة نظام المشاركة الحالي في تقاسم السلطة في البلاد، بما يعكس تواطؤ القديم على عدم القفز نحو جديد.
يُسقط المعتصمون في البرلمان العراقي محاولات الطبقة السياسية العراقية، سنّة وشيعة، للتواطوء لوأد طموحات العبادي في تمرير حكومة تكنوقراط. في الإعلان عن إقالة سليم الجبوري (ونائبيه همام حمودي وآرام شيخ محمد)، محاولة للإطاحة بتوافق للقوى السياسية التقليدية التي اجتمعت بحضور العبادي وجبوري لعدم القبول بلائحة العبادي المؤلفة من 16 وزيراً من التكنوقراط، والقبول فقط بأربعة منهم وإكمال الطاقم الحكومي من ممثلي الأحزاب. وإذا ما كان خطاب المعتصمين يستهدف الرئاسات العراقية الثلاث، بدت الإطاحة بالجبوري وكأنها إجهاز على الحلقة الأضعف في النظام السياسي العراقي باستهداف الموقع السني (وهو ما يهدد مفهوم الشراكة حسب النائب أحمد المساري)، في حين سيكون صعباً النيل من الموقعين الشيعي والكردي على رأس الدولة. ناهيك عن الدور الذي لعبه نوري المالكي ونوابه لتنفيذ “انقلاب” البرلمان، بما يجرد المعتصمين من طهارة كاملة، ذلك أن المالكي يريد بأي ثمن ضرب العبادي، وأن الجبوري كان الهدف الأسهل في الطريق لما هو أصعب.
في ذلك التصوّر يتنازع الشيعية السياسية في العراق هذه الأيام رياح غربية قادمة من واشنطن وأخرى شرقية تنفخ بها طهران. يدافع الأكراد عن موقعهم في رئاسة الجمهورية أياً كانت هوية هذه الرياح، فيما يفتقد السنّة إلى مرجعية إقليمية أو دولية تجعلهم شأناً مرجّحاً في موسم الحرب “الكونية” ضد داعش، إلا من موقف أميركي يرفض اقالة سليم الجبوري على ما أعلن أسامة النجيفي إثر اجتماعه مع الموفد الرئاسي الأميركي بيرت ماكغورك والسفير ستيوارت جونز (للمفارقة النجيفي أبلغ السفير الإيراني في بغداد تثمينه لجهود إيران لحلّ الأزمة!).
وفي ذلك التصوّر أيضاً يصبح الحراك المدني هامشي الفعل على مذبح الأجندات النشطة للغُرف الإقليمية والدولية، بحيث أن الصراع بين أقطاب السلطة في البلاد لا يلحظ التحوّل اللافت للكتل الإجتماعية العراقية ونزوعها نحو الخروج من تحت خيمة الفريق العراقي للغزو الأميركي للبلاد، لا سيما حين تحوّل السجال فجأة من صراع بين المواطن والحكومة إلى آخر بين نوري المالكي ومقتدى الصدر.
ورغم تقاطع التحوّلات الداخلية بالأجندات الخارجية، ورغم التأثير الكبير الذي يمارسه الخارج على الداخل، ينبغي عدم الاستهانة بحراك عراقي الهوى محلي الحوافز يروم التخلّص من سيطرة الأحزاب الدينية. ومع ذلك فليس يسيراً استشراف مآلات الصراع في بغداد. هناك كلام عن مشروع لحلّ مجلس النواب، لكن ذلك قد يجمد المأزق لكنه لن ينهي المعضلة المتّصلة بنيوياً بنظام المحاصصة منذ عام 2003. التحوّلات في المواقف سريعة سرعة ما تقرره ظروف المداولات الدولية المتعلقة بالعراق وسوريا معاً. فإذا ما ثبت توجس السيناتور غراهام من أن بلاده ذاهبة إلى جنيف لتسليم سوريا لإيران وروسيا، فإن المداولات هناك في كرّها وفرّها قد ترسم ملامح حراك القوى المتصارعة في العراق. على أنه وجب عدم إغفال أن لاعبين إقليميين معلنين ينشطون في الميادين السورية على النحو الذي يعدّل من الحصاد في جنيف على ما سيعدّل حتماً من شكل الحصاد في بغداد.
نقلا عن میدل ایست اونلاین