الرئيسية » آراء » بيروت لا تصدق هذا العالم!
مجموعة من عناصر ميليشيا حزب الله في استعراض عسكري. (أ.ف.ب)
يشعرُ لبنان أن تبدلاً في المزاجِ الدوليّ ضد إيرانَ يقرعُ أبوابَ عاصمته. تُفرجُ زيارتا نائب مساعدِ وزير الخارجية الأميركيّ لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد، ووزيرِ الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط أليستر بيرت، عن منحى عنوانه تقاطعُ موقفيْ لندن وواشنطن هذه الأيام من حزب الله. اتفقت العاصمتان على أن الحزب إرهابيّ، بجناحيه السياسيّ والعسكريّ، فيما ما زال موقفُ بريطانيا متباعداً عن موقفِ الولايات المتحدةِ من الاتفاق النوويّ مع إيرانَ، وهو موقفٌ تقتربُ فيه لندن من بيئتها الأوروبيةِ وتبتعدُ به عن حليفها التاريخيّ ما وراء الأطلسيّ.
ينقل ساترفيلد إلى بيروتَ حمولةً يُراد منها تحميلُ لبنان بعد ذلك مسؤوليةَ سياساته في التماهي أو الابتعادِ عن خياراتِ حزبِ الله ونهجه. يأتي الرجل هامساً داخل الغرف بما قد يجاهر به وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو القادم إلى بيروت. أصغى خصوم حزب الله إلى مطالعات الموفديْن الأميركي والبريطاني من دون كثير تعويل على انقلاب دوليّ على “الأمر الواقع” في لبنان. فيما لا يبدو، في المقابل، أن الحزب وحلفاءه قلقون كثيراً من جديد لندن وواشنطن في هذا الصدد.
بدت رحلة ساترفيلد في مضمونها ومسارها الداخلي محيّرة مُربكة. لم يزرْ رئيس الجمهورية ميشال عون ولا رئيسَ مجلس النواب نبيه بري. بدت مناوراته غير مفهومة فيها مزاج شخصيّ يعود به إلى زمنٍ كان يشغل فيه منصبَ سفير بلاده في لبنانَ حين اغتيل الراحل رفيق الحريري في العام 2005. حتى الشخصيات التي التقى بها، والمنتمية تاريخياً إلى ما يطلق عليه بـ “التيار السيادي” في البلاد، لم تأخذ أمر تلك المشهدية على محمل الجد، بانتظار ما في جعبة بومبيو من جديد سيصعب عليهم الإيمان به.
تشبه الحكومة اللبنانية في ما انتهى إليه مخاض تسعة أشهر لتشكيلها حقيقة موازين القوى في لبنان. قد لا يقبل زعيم حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، أن توصف الحكومة بأنها “حكومة حزب الله”، وله لردّ ذلك حججٌ وأسباب. لكن واشنطن، على لسان السفيرة الأميركية في لبنان إليزابيت ريتشارد أو على لسان ساترفيلد بعد ذلك، ترى غير ذلك، وتحذّر من أن تتمادى بيروتَ في الالتحاق بأجندة الحزب. لكن لبنان الذي يراقب بدأب مؤشرات المواقف الدولية، يستنتج أن ذلك المُعتمد في واشنطن ضد طهران، ما زال، حتى إشعار آخر، أميركياً، وربما ترمبيَّ الهوى (نسبةً إلى الرئيسِ الأميركيّ دونالد ترامب)، لا يحظى برعاية الشريكِ الأوروبيّ الأطلسيّ قبل مصادقةِ دولٍ مثل روسيا والصين. كما أن بيروتَ التي تفاجأت بقرارِ بريطانيا وضعَ حزب الله على لوائح الإرهاب، تبلّغت موقفاً فرنسياً، على لسانِ الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، يبرّئُ الجناحَ السياسيّ لحزب الله من تهمةِ ذلك الإرهاب.
قد يكون أمرُ الانقسام الدوليّ حول الموقف من إيران- الدولة وحزب الله- الميليشيا مريحاً للحزب وحلفائه في لبنان. غير أن هذه الحقيقة تجعل من خصوم الحزب أكثر واقعية في قراءة رسائلِ العواصمِ الكبرى وردّ ضغوطها. ولخصوم حزب الله في لبنان ذاكرة مؤلمةٌ عبرت السنين التي تلت انقسامَ ما بعد اغتيال الحريري. خبروا بالدمِ عزوفَ العالم عن تحمّل وزر ردّ الوقائع التي تتالت والتي دفع من جرائها الشارعُ المعادي لحزب الله دماً ثمناً لموقفٍ يُفترض أنه مسنودٌ من الشرعية الدوليةِ ومن عواصمِ القرار الكبرى.
في المحصلةِ، فإن حكومةَ هذه الأيام في لبنانَ هي حكومة الأمر الواقع الذي فرضه حزب الله على العالم من دون خجلٍ. وجّهت المحكمةُ الدولية الخاصةُ بلبنانَ تهماً إلى عناصرَ ينتمون إلى حزب الله بقضية اغتيال رفيق الحريري. وتحدّثت تقارير رسميةٌ عربية ودولية عن أنشطة حزب الله الخبيثةِ في منطقة الخليج واليمن وسوريا والعراق ولبنان. وأصدرت بلغاريا والأرجنتين تهماً ضد الحزبِ حول عمليات إرهابية ارتُكبت في البلدين. وتعاونت أجهزة مخابرات أميركية أوروبية لكشف شبكات تهريبٍ كبرى في مجال المخدراتِ وتبييضِ الأموالِ تعمل لصالح الحزب. وبغضّ النظر عن الطابع “التآمري” التي يرى بها حزب الله هذه الاتهامات، فإن الدول التي أصدرت “رسمياً” هذه الاتهامات، منقسمةٌ حول مسألة اعتبار الحزب إرهابياً واعتبار إيران من ورائه دولةً راعيةً للإرهاب.
وفق هذا المشهد، ليس على لبنان أن يتخذ موقفاً حازماً من مسائل ما زال ينقصها الحزمُ من قبل الدول الكبرى. شكّلت بيروت حكومتها بشقّ النفسِ وفق قاعدة “ربط النزاع” مع حزب الله. ولا يبدو حتى الآن أن التوازنات الكبرى في العالم تتيح للبنانيين قراءةَ مستجداتٍ دولية تنقلب على قراءتهم واقعهم الداخليّ. ولئن يصعب أن يتغير السلوكُ الرسميّ عما هو رقصٌ على خطوطِ التعايشِ بين قصرِ بعبدا والسراي الحكوميّ وعما هو تكاذبٌ بين الأضدادِ داخلَ مجلس الوزراء، فإن تطورَ موقفِ العواصمِ سلباً من حزب الله على نحو يفيضُ على أعتابِ بيروت، لا يمكن للحزب إلا أن يأخذه جدياً في الاعتبار.
يُسجلُ أن الموقف العربيّ الذي تقوده السعوديةُ يمثل تعزيزاً لحضورٍ هدفه منع سقوط لبنان داخل فضاء إيران الإقليميّ. ويُسجلُ أن هذا الحشد الغربيّ الدبلوماسيّ الذي يتوافدُ على بيروت يوفّر للبنان حاضنة دوليةً استثنائيةً في مقابل “فائض سلاح” استثنائيّ عند حزب الله وما يفرضه من وهجٍ داخل المشهد السياسيّ الداخليّ. صحيحٌ أن حزب الله يمثّل عصباً حيوياً لطهرانَ في الهيمنة على قرارِ بيروت، لكن تلك الهيمنة وصلت إلى سقف عاقرٍ لم يتحْ فتحَ أبواب البلد أمام إغراءاتِ أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله ووزيرِ الخارجية محمد جواد ظريف الذي أطلّ على بيروتَ حاملاً عروضَ بلاده.
على هذا يحتاجُ لبنانَ إلى موقفٍ عربيٍ دوليٍ يجعل من احتضانِ لبنانَ قراراً إستراتيجياً وليس سلوكاً انفعالياً عرضياً موقتاً. صدّقَ اللبنانيون يوماً أن باستطاعتهم ردَّ نظامَ دمشق وسلاحَ طهران بأجسادهم. دفعوا ثمنَ ذلك. طُرد رئيسُ حكومتهم سعد الحريري في العام 2011 من حكومته (ثم من بلده لاحقاً) فيما كان مجتمعاً بسيّدِ البيت الأبيض آنذاك، باراك أوباما. يدرك لبنان اليومَ أن معالجةَ سلاح حزب الله أمرٌ تقرّره التوازنات الكبرى، وأن موقفَ هذه العاصمةِ أو تلك من إرهابية حزب الله هو شأنُ تلك العواصمِ ولا يمكن منطقياً أن يُطلبَ من لبنانَ الانسياقَ مع هذه العواصمِ وفق تبدلِ مزاجها وتوقيتِه.
حريّ أن نعترفَ بأن لبنان الذي يجاورُ البركانَ في سوريا وتطلُ عليه ظلالُ إيرانَ الثقيلةُ، استطاعَ أن يحافظَ على شكلٍ من أشكالِ الحصانةِ الذاتيةِ بانتظار أن ترسو السفنُ على شواطئَ آمنةٍ. وفيما تُدبّر خلف الغرفِ صفقاتٌ قد تُنهي المأساة في سوريا وتقاربُ الصراع مع إيران وتزعمُ نسجَ تسويةٍ معقّدةٍ لفلسطين، فإن موقفَ بيروتَ الذي تطالب به الدول الكبرى يبقى هامشياً متواضعاً لا يرسمُ ولم يرسمْ يوماً خطوطَ الخرائطِ في الشرقِ الأوسطِ.