تشبه مقاربة ترامب لإيران مقاربة أسلافه جميعا في “احتواء” الورم لا إزالته. فهمت طهران سريعاً أن إطاحة ترامب بالاتفاق النووي، كما الشروط الـ12 لوزير خارجيته مايك بومبيو، هدفها بالنهاية “الاتفاق” مع إيران.
الجمعة 2019/02/01
واشنطن لا تريد إسقاط نظام الملالي
لا تشكل إيران خطراً مباشراً على الولايات المتحدة. تدرك واشنطن ذلك، وتعاملت مع طهران منذ قيام الجمهورية الإسلامية وفق ذلك. تواطأت الولايات المتحدة بخبث في ظل شروط الحرب الباردة، فسهّلت إزاحة حليفها الشاه، خصم الاتحاد السوفياتي، ورعت وصول روح الله الخميني إلى السلطة لتشييد نظام ديني في طهران ضد إمبراطورية الإلحاد في موسكو.
تناكفت إيران – الخميني مع الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة. كان نظام ولاية الفقيه يحتاج إلى شرعية جديدة. نهل الخميني تلك الشرعية من خطاب ثوري يبشّر بتصدير الثورة لإسقاط “الشيطان الأكبر” البعيد، ويَعِدُ بإزالة إسرائيل عن وجه الأرض، ويتوعد أهل المنطقة بزلزال. كذبت طهران. كشفت فضيحة الـ”إيران غيت” في ثمانينات القرن الماضي تقاطع واشنطن وتل أبيب في دعم نظام الخميني في حربه ضد عراق – صدام حسين.
اعترفت الولايات المتحدة، والعالم الغربي من ورائها، أن سقوط الاتحاد السوفياتي غيّر من وظيفة الخميني في المشهد الدولي الجديد. بدا أن للرجل مشروعه الخاص مستفيداً من فراغ اختفاء الخطر الشيوعي. احتاج ذلك المشروع إلى تصادم مع الغرب وواشنطن بما يفسر انفجار قنابل طهران في شوارع أوروبا، واحتجاز “الطلبة” في طهران للدبلوماسيين الأميركيين، والشروع في عمليات خطف للغربيين في بيروت، وصولا إلى تفجير ثكنة المارينز هناك.
راهن الخميني على الصدام المستمر مع الخصوم. أوقف حربه الخاسرة ضد العراق، واستمر بها بشكل آخر ضد الخصوم. كانت له صولات وجولات في المنطقة كما ضد عواصم العالم. قدّمت فتواه ضد الكاتب البريطاني سلمان رشدي مشهداً جديداً عن ظلال إيران على العالم. فاوضت باريس طهران وأطلقت من حاولَ قتل رئيس الوزراء الأسبق شهبور بختيار وغضّت الطرف عمن نجح في قتله لاحقاً. توقفت قنابل إيران عن الانفجار في شوارع باريس. فاوضت واشنطن طهران لإطلاق سراح رهائنها ولملمت جندها وخيبتها حين قتلت نيران إيرانية المئات من رجال المارينر في بيروت.
هكذا تصرفت الجمهورية الإسلامية مع هذا الغرب. وهكذا الغرب قبل الأمر وتعامل معه. فلسفة الأمر أن إيران بلد وجب التعامل معه أيا كان شكل نظامه، وأن سوق إيران في نفطه وخيراته وبناه التحتية وحجمه البشري ميدان ثراء يجب عدم إهماله. على ذلك باتت إيران رقما صعباً يزحف بدأب نحو القنبلة الذرية، ويعبث دون رادع في بلدان المنطقة من اليمن إلى لبنان مرورا بالخليج والعراق وسوريا.
لا تشكل إيران خطرا مباشرا على الولايات المتحدة، يفسر ذلك الموقف الصقوري الجديد لواشنطن. ولا يمكن الركون إلى أن مواقف واشنطن واستدارتها “القتالية”، ولو بدبلوماسية العقوبات، تأتي كرمى لعين إسرائيل ودفاعاً عن هواجسها الأمنية في الشرق الأوسط. تغير الرئيس في الولايات المتحدة لكن عقائد واشنطن ومؤسساتها السياسية والأمنية والعسكرية لم تتغير على نحو يبرر تصديقنا لهذا التحوّل اللافت في الموقف من نظام إيران. إيران هي إيران منذ عام 1979، ولا داعي للانبهار بأن هناك كشفا جديداً لها في واشنطن.
قد يمثّل انقلاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الاتفاق النووي مع إيران ملفاً من الملفات التي حقق بها سلفه باراك أوباما إنجازاً وجب تقويضه. بدا أن ترامب يفتك بالملف النووي الإيراني كما يفتك بنظام الرعاية الصحية “أوباما كير”. تشبه مقاربة ترامب لإيران مقاربة أسلافه جميعا في “احتواء” الورم لا إزالته. فهمت طهران سريعاً أن إطاحة ترامب بالاتفاق النووي كما الشروط الـ12 لوزير خارجيته مايك بومبيو هدفها، بالنهاية، “الاتفاق” مع إيران. وعليه فإن طهران تتدلل وتتموضع وتتحضر وتراكم أوراقها استعدادا لاتفاق ما يوما ما.
فهم ترامب أيضاً أن الموقف الأوروبي، لاسيما اختلاق آلية دفع والتمسك باتفاق فيينا لعام 2015، معطوفا على مواقف روسيا والصين، لا يَعِدُ بانقلاب في موازين القوى ضد إيران. بدا أن ضغوط واشنطن العقابية مزعجة مربكة وقد تسبب اضطرابات اجتماعية داخلية، إلا أن الأمر لا يشكل تهديداً وجوديا لنظام الولي الفقيه. ذلك أن العالم لا يريد. وذلك أن الولايات المتحدة نفسها لا تريد.
تتعامل الولايات المتحدة مع إيران في ظل إدارة ترامب بصفتها دولة كبرى وجب التنافس مع نفوذها في الشرق الأوسط. يبدو ذلك جلياً في العراق بحيث يظهر أن واشنطن تسعى لترميم حصّة هناك داخل بلد شبه ساقط في يد إيران. فإذا ما زار بومبيو العراق سراً لساعات، فإن وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، يزوره جهارا لعدة أيام. بات واضحاً بالمقابل أن قرار ترامب الانسحاب من سوريا يُعَدُّ إطاحة بآمال مستشاره للأمن القومي، جون بولتون، في بقاء تلك القوات حتى خروج النفوذ الإيراني من سوريا. وبدا من زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركي، ديفيد هيل، للبنان سباحة محدودة داخل “دولة حزب الله” وقبولاً بأمرها الواقع.
تتعامل الولايات المتحدة مع إيران بصفتها دولة كبرى حين تدعو من أجل مكافحتها إلى مؤتمر دولي يعقد في وارسو خلال أسابيع. يبدو المؤتمر حفلة مشهدية إعلامية لعرض لعبة معروفة القواعد واللاعبين. لا أحد في العالم، قبل وخلال وبعد هذا المؤتمر، يريد إسقاط النظام في طهران. واشنطن نفسها لا تريد ذلك. أهل المنطقة لا يريدون ذلك ولا يسعون إليه وهم أصلاً منقسمون عاجزون عن اتخاذ موقف واحد ضد إيران.
واشنطن تحضّر العالم في وارسو من أجل العبور إلى الصفقة مع إيران. تدرك طهران ذلك. لا يقلقها أمر المؤتمر وتدرك أن ما أنجزته برعاية هذا العالم وتواطؤه منذ قيام جمهوريتها الإسلامية عام 1979، جعل منها عاملا لا يمكن تهميشه في أي تسويات وصفقات في الشرق الأوسط.
واشنطن وأوروبا والصين وروسيا تقارب الحالة الإيرانية من زاوية مصالحها الحالية والمقبلة مع إيران. أبرم أوباما اتفاقه النووي مع إيران من خلف ظهر دول المنطقة. وإذا ما قُيّض لترامب إبرام اتفاق جديد معها، فلن يأخذ بالضرورة مصالح تلك الدول، لاسيما الخليجية منها، بالحسبان. وتخطئ عواصم المنطقة إذا ما عوّلت على واشنطن ومؤتمرها الدولي في وارسو، وتخطئ في تأملها بصمت للسجال الأميركي-الإيراني، وتخطئ في أن تحضر مؤتمر وارسو المعادي لإيران دون أن يكون لها مقعد أساسي والكلمة الفصل في أي تسويات مقبلة يحيكها العالم مع إيران.
لافت أن يجتمع وزراء خارجية الأردن ومصر والسعودية والكويت والإمارات والبحرين في الأردن. جيد أن تسعى تلك الدول المحدودة العدد لصناعة موقف منسجم واحد في ملفات تخصها في السياسة والأمن لا تستطيع القمم العربية الاهتداء إليه. وقد يكون حرياً أن تعي تلك الدول أن شيئا ما يُعدُّ ليجعلَ من إيران شريكا مع تركيا وإسرائيل في تقرير خرائط المنطقة وتوازناتها. ولئن كان من الصعب على العرب جميعاً أن يتموضعوا بشكل موحد للتعامل مع الأمر، فإنه سيكون مطلوباً من الدول الست التي “تتشاور” في البحر الميت أن تضرب على طاولة المجتمعين بعد أسبوعين في وارسو.
ربما يجب تأمل الكلام عن انفراج حكومي في لبنان لتأمل نزوع هذا الغرب (فرنسا هنا) للاتفاق مع إيران.