تظهر ترنيمة جديدة تُعزف بين طهران والدوحة وأنقرة وموسكو، ليأتي الرئيس السوداني وينفخ في طبولها في دمشق.
اهتاج إعلام النظام في سوريا لتغطية خبر وصول الرئيس السوداني عمر حسن البشير الأحد إلى العاصمة السورية للقاء زعيم النظام بشار الأسد. الحدث لافت استثنائي بالنسبة لدمشق، يستحق تعظيما وتضخيما وتفخيماً، على النحو الذي يوحي أن في الأمر تحوّلاً قد يشي بأن النظام السياسي العربي، الذي جمد عضوية سوريا في جامعة الدول العربية في نوفمبر 2011، يدلي بأعراض نقيضة ويتحضر لانعطافة لا تشكل زيارة البشير إلا إرهاصاتها الأولى.
ولا شك إن للحدث معان لا يمكن اغفالها ولا التقليل من رمزيتها. غير أن لقاء البشير-الأسد ليس بالضرورة تعبيراً عن مزاج عربي متبدل وليس مناسبة من الممكن البناء عليها لاستشراف صعود صاعق للمسألة السورية داخل الأجندة العربية. فإذا ما كان للزيارة تفسير منطقي، فالأجدى في ذلك قراءتها داخل خريطة الدول المؤثرة مباشرة على مسار سوريا ومستقبلها.
لا نخطئ القول في أن العرب، بمنظومتهم الجامعة أو بأجنداتهم المتفرقة، هم الآن خارج أي فعل في سوريا. بمعنى آخر، فأن يأتي البشير وغير البشير من الشخصيات العربية في هذه الأوقات لزيارة العاصمة السورية، فذلك تفصيل مهم في الشكل فارغ المضمون لا حساب له في تغيير موازين القوى الناظمة لخرائط اللاعبين الحقيقيين. فما بين استانا وجنيف، مرورا بواشنطن وموسكو وأنقرة وطهران، انتهاء بعواصم الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، لا يبدو أن للخرطوم مكانة أو دوراً بإمكانهما أن يتداعيا مباشرة على قرار دمشق كما قرار العرب من دمشق.
لم يكن السودان طرفاً في الصراع السوري منذ عام 2011. بقي التواصل الخفي والعلني حاضراً، ولم يُلحظ للخرطوم خطاب أو موقف خارج الموقف الجمعي للنظام السياسي العربي حيال الأزمة في سوريا وحيال نظامها. وعليه لا يمكن لأي تحول عربي نوعي لافت إزاء نظام الأسد، أن يكون عنوانه سودانيا. تعرف دمشق من هي الدول العربية الأساسية التي يتعلق بها قرار العرب حيالها، وتدرك أن لزيارة البشير رسائل أخرى ليست بالضرورة ذات عناوين عربية.
تمسك روسيا بمفاتيح اللعبة المعقدة في سوريا دون منازع. على ضفاف الفعل الروسي تمارس إيران وتركيا وإسرائيل تمارين الكرّ والفر. تملك هذه الأطراف جميعها أدوات الحسم والرسم لتحسين مواقعها الإقليمية والدولية من خلال نفخ أحجام حصصها الموعودة داخل سوريا الجديدة.
وحدها الولايات المتحدة تأتي على نحو حيوي (يساعدها في ذلك موقف أوروبي واضح وتواطؤ صيني خبيث) ليس فقط لمنافسة الدور الروسي وقواعده، بل لتهديد كل الركائز التي بنتها موسكو منذ التدخل العسكري في سبتمبر 2015.
يصل البشير إلى دمشق على غفلة وخارج سياق أي عملية دبلوماسية معلنة. كان المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا قد أعلن، ما كانت ألمحت إليه موسكو، عن قرب التوصل إلى اتفاق لتشكيل اللجنة الدستورية. لا معطيات عن سرّ هذا الاتفاق الداهم الذي يدور أساساً حول رفض دمشق، وطهران من ورائها، للائحة اقترحها دي ميستورا لتمثيل المجتمع المدني جنبا إلى جنب مع لائحة النظام ولائحة المعارضة. لكن الداهم الوحيد لفك عقدة اللجنة العتيدة، هو تهديد واشنطن، عبر دعوة مبعوثها الخاص لشؤون سوريا، جيمس جيفري، إلى إنهاء عمليتي أستانا وسوتشي للتسوية السورية إن لم يتم تشكيل اللجنة الدستورية السورية في منتصف ديسمبر الحالي.
يأتي البشير إلى سوريا في عمل يصب في حسابات روسيا وليس حسابات العرب. ترسل موسكو من خلال الرئيس السوداني رسائل للأميركيين والأوروبيين أن العرب يستعدون للتطبيع مع نظام الأسد لعل في تلك الرسائل ما يخفف من عناد العالم الغربي في مقاربته لمسائل إعادة الإعمار واللاجئين. تقول موسكو لواشنطن إن خرائطها للتسوية ناجعة، ليس فقط في ترويض طبائع الأتراك والإيرانيين، بل هي بدأت تعرض للواجهات الأولى لعملية ترميم علاقات النظام العربي بنظام دمشق.
يجتمع الموقف الأميركي والأوروبي، والذي لا يجتمع على ملفات كثيرة هذه الأيام، على نظرة متطابقة لكيفية التعامل مع المسألة السورية. يشترط العالم الغربي الشروع بعملية سياسية حقيقية تؤسس لمرحلة انتقالية قبل الحديث عن سبل دفع الأموال لإعادة إعمار ما دمرته أعوام الحرب السبعة. وهنا تبدو روسيا، التي تحرّكت إلى سوريا لأن الغرب أباح ذلك، أسيرة موقف غربي لم يستطع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تحقيق اختراقات داخله ما بين ضفتي الأطلسي.
ولئن يصل البشير إلى دمشق من داخل الخرائط الروسية، فإن ذلك يتم داخل أعراض جديدة يفصح عنها أصحاب أستانا أنفسهم.
تود إيران التمسك بعملية أستانا بصفتها العملية السياسية الوحيدة التي تمنح الوجود العسكري الإيراني في سوريا غطاء شرعياً، أو على الأقل غطاء روسياً، في لحظة تتكثف فيها ضغوط واشنطن عليها.
وتود تركيا أن لا ينهار صرح أستانا الناظم ضمناً لعملية درع الفرات، والمشرّع لوجودها العسكري في شمال سوريا واحتمالاته ضد الوجود الكردي شرق الفرات، مع ما يحمله ذلك من تناتش مع واشنطن.
يحلّ البشير لساعات معدودة ضيفا على زعيم النظام السوري في اليوم نفسه الذي أعلن فيه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن بلاده ستدرس التعامل مع الأسد. يعلن الوزير التركي ذلك في الدوحة على نحو يوحي أنه أساسا ذهب إلى هناك ليعلن ذاك التحول من ذلك المكان. وعلى هذا تظهر ترنيمة جديدة تُعزف بين طهران والدوحة وأنقرة وموسكو، ليأتي الرئيس السوداني وينفخ في طبولها في دمشق.
على أن حدث زيارة الرئيس السوداني يمثل في جانب منه خطوة تؤشر على انقسام إقليمي دولي حول نظام دمشق والموقف من زعيمه، ولا يمثل تحولا إيجابيا موحداً لصالح الطبخة الروسية.
فإذا ما قُرئت الزيارة بصفتها واجهة من واجهات تحالف إيران وقطر وتركيا، فإن ذاك نذير تصدّع إقليمي إضافي يبعد العرب عن دمشق، وإذا ما قرئت بصفتها انقلابا عربيا أرادت روسيا ابلاغه للولايات المتحدة، فإن ذلك سيقابل بتشدد غربي يدعمه تيار عربي واسع لن يحيد عن المطالبة بعملية سياسية كاملة قبل القبول بأي تطبيع، حتى من النوع المبهرج الذي أحاط بزيارة البشير السورية.
ليس صحيحا أن ما بعد زيارة البشير ليس كما ما قبلها، وفق ما أوحت تحليلات دمشق ومريديها. لا شيء سيذكر بعد زيارة البشير ولن يغير من أمر الزيارة شيئا على مشهد المواقف الدولية وسقوفها. وليس صحيحاً أن زيارة الزعيم السوداني تمثل إغراء لنظام دمشق بأن عودة عربية إلى سوريا قادمة إذا ما كانت دمشق مرنة في مسألة الدستور ولجانه. ذلك أن ليس لدمشق أن تقرر فيما قرارها في يد رعاتها وحدهم في موسكو وطهران.
تكرر موسكو منذ العام الماضي دعوتها العرب لإعادة سوريا إلى متن جامعتهم. زيارة البشير تأتي وفق البوصلة الروسية وتوقيت موسكو.