مقابل رشاقة حزب الله في إنتاج الحجج وعرض الوقائع واستخراج النصوص لتبرير التعطيل، بدا أن ثوابت “ورقة التفاهم” بينه وبين التيار الوطني الحر تعرّضت لتجربة لم يعرفها تحالف مار مخايل من قبل.
دكان في بيروت يعرض صندوقا لجمع التبرعات لحزب الله حان وقت جمع التبرعات بالحصالة
توفرت لحزب الله المعطيات تلو المعطيات حول قرار أميركي بالتعامل مع ملفه بالتوازي مع ملف إيران، واعتباره، فوق ذلك، ملفاً منفصلاً يجوز عليه ما يجوز على المنظمات الإجرامية.
أفصحت نصوص العقوبات الأميركية الجديدة عن ترسانة من التدابير العقابية التي لا تعترف لحزب الله، ولو ضمناً، بطابعه السياسي الممثَّل في برلمان لبنان وحكوماته. وعليه كان على الحزب أن يسعى إلى جعل حكومة سعد الحريري الجديدة حكومة حزب الله، على نحو يرفع من مستوى التحصّن الشرعي حيال العواصف التي تنفخها واشنطن.
تعاملت الولايات المتحدة مع هذا الملف بمقاربات ذات ديناميات لم يسبق لها مثيل. سبق للسفيرة الأميركية في بيروت، إليزابيت ريتشارد، أن حذرت بيروت من مغبة أن تعهد وزارة الصحة في لبنان إلى حزب الله لما سيكون لذلك من أثر سلبي على البروتوكولات المالية الأميركية الداعمة للوزارة وبرامجها. وسبق لواشنطن أن أوفدت، أواخر اكتوبر الماضي، نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون المشرق، جويل رايبرن، إلى بيروت، فأبلغ سلطاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية خطط واشنطن المقبلة في المنطقة، لاسيما تلك المتعلقة بإيران في المنطقة والأخرى المتعلقة بحزب الله، بالذات، في لبنان.
غير أن هذا السجال بين واشنطن والحزب بقي خلال العقود الأخيرة من الأبجديات التي وسمت علاقة الولايات المتحدة مع الجمهورية الاسلامية وأذرعها. وصلت علاقة واشنطن وطهران إلى شفير الصدام الكبير منذ احتجاز “طلاب الثورة” للدبلوماسيين الأميركيين في طهران، كما وصلت أيضاً إلى شفير الصدام الكبير بين واشنطن وحزب الله منذ خطف رهائن أميركيين في بيروت وتفجير ثكنة المارينز هناك. وفي كلا الحالين، وعلى نحو عجائبي، لم يحصل هذا الصدام، بل أن تعايشاً سريالياً جرى بين “الشيطان الأكبر” وإيران من “محور الشر”، يجعل من حزب الله مرتاحاً إلى أن ثوابت الأمس لن تغيرها تحولات اليوم، حتى لو كان رئيس الولايات المتحدة الحالي، دونالد ترامب، لا يشبه في العقيدة والطباع أسلافه.
على هذا قرر حزب الله أن الظرف لا يحتمل المخاطرة بالاكتفاء بإنتاج حكومة يتم اختراقها من قبله، وأن طبيعة الضغوط التي تُمارس ضد إيران، كما ضد شبكاته المحلية والإقليمية والدولية، تتطلب “القبض” على الحكومة اللبنانية بشكل جلي واضح لا يحتمل لبساً، ولا يحتمل، حتى، الاستكانة إلى الحليف في بعبدا وتياره. وهنا فقط نفهم حرص الحزب على “الوفاء” لسنّته وغيرته على تمثيلهم داخل الحكومة العتيدة.
لم يعتبر الحزب يوماً “السنة المستقلين” إلا أدوات تابعة لنظام الوصاية السورية على لبنان. استفاد هؤلاء من هذه التبعية وهذا الولاء لدمشق، فكانت لهم الامتيازات والمناصب. بمعنى آخر لم يعترف الحزب يوماً بأن لهذه الظواهر حيثيات خاصة منفصلة عن رعاية دمشق سابقا ورعاية إيران وحزب الله لاحقاً، وأن وقوفها مع حزب الله داخل معسكر “8 آذار” كان إجبارياً لا خيار ثانيا له للاحتماء من الغضب الذي اجتاح البلد بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. بهذا المعنى يمن الحزب على “سنته” بالفضل في الحماية والرعاية، بحيث لا تستقيم نظرية “الوفاء” لهم، وهم له تابعون.
لا يهتم حزب الله كثيرا لقضية الوفاء التي يروج لها هذه الأيام لتبرير استفاقته على مسألة تمثيل سنّته داخل الحكومة العتيدة. حين أطاح بحكومة سعد الحريري عام 2011، رشح الرئيس عمر كرامي لتأليف الحكومة البديلة “وفاءً” للرجل. بيد أن مصالح وأجندات الحزب تبدلت آنذاك، فأزاح أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله كرامي من خلال إطلالة إعلامية تحدث فيها عن رسالة بعث بها كرامي طالبا إعفاءه بداعي المرض. رد الأخير بسخرية وامتعاض “عندما استمعت للسيد حسن في الخطاب الذي رثاني فيه، اليوم أنا أمامكم وأستشهد بكم كإعلاميين، أنا أمامكم فهل ترونني مريضاً؟” وعليه فأن مسألة الوفاء تعبير أبجدي له استخداماته وهي كأي أبجدية يسهل استبدالها بأبجديات أخرى.
ومقابل رشاقة الحزب في إنتاج الحجج وعرض الوقائع واستخراج النصوص، بدا أن ثوابت “ورقة التفاهم” بينه وبين التيار الوطني الحر تعرّضت لتجربة لم يعرفها تحالف مار مخايل قبل ذلك. فأن يُفاجأ رئيس الجمهورية ميشال عون من موقف حزب الله الطارئ والمعطّل لقيام الحكومة الجديدة، فذلك من عاديات الأمور التي وجب على بعبدا أن تتلقفها وتعيد صياغتها لما فيه مصلحة الحزب وتمشياً مع رغباته. بيد أن موقف عون من هذه المسألة، لجهة التضامن مع رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، شكل المفاجأة الحقيقية لحزب الله، واعتُبر سابقة في طبيعة العلاقة التي تجمع الحزب مع عون أولا ثم مع صهره جبران باسيل ثانياً. وبناء على هذا المستجد، بدا أن بعبدا تحرّكت وفقا معطيات جديدة متعددة الأبعاد.
يعتبر عون أن حزب الله، ولأسباب خارجية تتعلق بمزاج إيران، يقف وراء التعطيل الحقيقي لولادة حكومة العهد. ويعتبر أن صمت الحزب حيال العقدتين، المسيحية والدرزية، اللتان راجتا في الأشهر الأخيرة، لم يكن سببه تسهيل ولادة الحكومة بقدر ما كان معبراً عن ارتياحه من أن يعرقل الآخرون حكومة لا يريد ولادتها. لكن الأدهى، أن رئيس الجمهورية اللبناني شعر أن مناورة “الوفاء” التي أطلقها الحزب لا تمس في الحقيقة سعد الحريري، بل تروم إغراق الحكومة بأدوات الحزب ومنع عون من الإمساك بثلث معطل كان يطل لصالح بعبدا في التسويات التفصيلية الأخيرة.
على أن الثنائي عون-باسيل الذي تبلّغ تحذيرات أميركية من التشكيلة الحكومية التي تمنح حزب الله وزارة الصحة، تبلغ أيضاً قرارا أميركيا دوليا يحذر من تحويل لبنان في عهد ميشال عون إلى “دولة حزب الله”. وبدا أن عون الذي سلّف الحزب مواقف مؤيده لـ “المقاومة” وسلاحها، ودافع عنه لدى المنابر والمحافل الدولية، سمح لنفسه، هذه المرة، أن يوسّع من هامش مصالحه التي قد تتعارض، ولو ظرفياً، مع مصالح الحزب وأجنداته. على أن مسارعة باسيل إلى الطلب من محازبي التيار الوطني الحر وقف أي سجال مع الحزب على وسائل التواصل الاجتماعي، وارتباك الحزب في كيفية التعامل مع موقف عون دون الصدام معه، يفصح عن أزمة في إدارة تحالف بعبدا-حارة حريك وتدوير زواياه.
لن يفرج حزب الله عن حكومة لبنان. تبلّغ الحريري وسمير جعجع ووليد جنبلاط رسائل معينة من الخارج ما دفعهم إلى إزالة العقد والقبول بالمتوفر لتسهيل ولادة الحكومة. باتت ولادة الحكومة مطلوبة من المجتمع الدولي، فيما لا تريد إيران لهذه الحكومة أن ترى النور في موسم المقاطعة الأميركية الدولية لاقتصادها، وتريد أن تمسك بهذه الورقة لمقايضاتها في موسم المفاوضات المقبلة. وعلى ذلك، فإن الحزب يفضل أن لا يكون في لبنان حكومة شرعية مكتملة الصلاحيات لا يمتلك فيها كامل النفوذ الذي تتيحه نوبات “الوفاء” الطارئة.
قد يخسر لبنان كثيرا، بيد أن الحزب الذي يعتبر أنه يخوض معارك وجود في المنطقة ولبنان، لن يكترث لما قد يخسره البلد في وقت تخسر الجمهورية الاسلامية في إيران أرصدة في الاقتصاد والسياسة ما يهدد استقرارها ووجودها.