يعتبر الثاني والعشرون من شهر نوفمبر ١٩٤٣، تخليدا لذكرى حكومة الاستقلال الوطنية اللبنانية، عندما قامت فرنسا بمنح لبنان الاستقلال التام وتم الاعتراف بها کدولة مستقلة، ولامناص هنا من التسليم بأن فرنسا منحت لبنان الاستقلال بعد أن جعلته بلدا مميزا بکل ما للکلمة من معنى، ذلك أن لبنان کان تحت الوصاية الفرنسية وقد استفاد أيما استفادة من ذلك، وکما هو القول السائد “رب ضارة نافعة”، حيث حقق بفضل تلك الوصاية تقدما وتطورا علميا واجتماعيا وطبيا وسياسيا وتشريعيا وعمرانيا وفنيا وتقنيا وحضاريا وبيئيا ومصرفيا وسياحيا وصناعيا ، بالإضافة إلى أخذ الخبرة والتجربة الفرنسية، ما جعله بلدا متقدما وعامرا ومتميزا عن دول المنطقة بحيث تم وصفه بـ”سويسرا الشرق” وصار العرب والعالم يقصدونه من کل مکان من أجل زيارته والتنعم والتمتع فيه بفضل استتباب الأمن والاستقرار، فکانت مستشفياته وجامعاته ومصانعه ومطابعه ومنتجعاته ومصايفه تعج بالزائرين من کل صوب وحدب، وکانت مسارحه وقاعاته تعج بالحفلات الفنية والندوات والملتقيات الأدبية ، وکانت مجلاته وجرائده تصدر على قدم وساق إلى جانب مطابعه التي کانت کتبها تزين رفوف کافة المکتبات في سائر أرجاء الوطن العربي، ذلك کان لبنان الأخضر قطعة من السماء تحت الوصاية الفرنسية التي صار الشعب اللبناني يترحم عليها بل وحتى يتمنى عودتها.
لبنان اليوم، وفي زمن الاحتلال والنفوذ والهيمنة الإيرانية التي هبت عليه کريح صرصر عاتية تستهدف کل ماهو أخضر ويانع وکل مظاهر الحب والخير والجمال والفن والرقي وکأنه زمن الانتقام من کل ما قد تنعم به الشعب اللبناني، خصوصا بعد أن بدأ زمن العبث والفوضى يخيم على لبنان، فتوارى خلف مظاهر الفلتان الأمني وعمليات القتل والاغتيالات والتفجيرات وغاب السلام والأمن والاستقرار الذي کان يميز لبنان وجعله سويسرا الشرق بحق وحقيقة، بالأخص عقب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، حيث جرى تأسيس جيش إيراني الهوى والأساس بشکل ومظهر لبناني، لکن قرار وإدارة وتوجيه هذا الجيش کان ولايزال من إيران.
إن لبنان الذي کان يزخر وينبض بمظاهر الحسن والجمال والتقدم والتطور، وکان أشبه ببستان عامر أو حديقة عبقة خلابة لافتة للأنظار، وبعد أن کان شعبه ينبض بالحياة والبسمة والبشاشة التي لاتفارق الوجوه، فإنه اليوم وفي ظل زمن الاحتلال والسيطرة الإيرانية يعيش حالة مختلفة تماما، فالأوضاع الصحية وحال المستشفيات متدهورة وتبعث على الحزن والأسى، أما البيئة فقد طالها هذا الزمن البائس بظلاله السوداء فدمرها تدميرا، فالكهرباء مفقودة والتلوث في الماء والهواء والأرض والمزروعات والأوساخ والقاذورات تنتشر في کل مکان، بل وکأنها نهر في الشوارع والطرقات، أما مطار لبنان الذي کان بالأمس يشار له بالبنان وکان ينظر له بکل فخر واعتزاز فإنه صار اليوم أشبه مايکون بواجهة حزبية متزينة بصور وشعارات يعرف القاصي قبل الداني بأنها مفروضة عليه فرضا.
أما الجامعات اللبنانية التي کان يتهافت الطلاب العرب للنهل من علومها وآدابها، فقد صارت اليوم أشبه ماتکون بثکنات حزبية يمکن أن تفرخ فيها کل شيء إلا العلوم والآداب والثقافات وعوضا عن حفلات التخرج فإنها تشهد حفلات تعبئة للعنف والتهريب وتبييض الأموال والاتجار بکل ماهو ممنوع ومخالف للقانون.
إن الأمن والاستقرار الذي کان الشعب اللبناني ينعم ويبني في ظله مستقبل أجياله، جاء زمن الاحتلال الإيراني ليصادر کل مظاهر الحب والخير والسعادة والحياة، وصار الشعب يصحو على المسلحين وهم يسيطرون على الشوارع والساحات ويعطلون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بموجب إشارة إليهم من طهران، وصار القرار السياسي اللبناني معطلا ومصابا بشلل غير مسبوق، بعد أن كان مضربا للمثل وحديث الشارع السياسي العربي، ولعل انتظار أشهر وسنوات من أجل انتخاب رئيس الجمهورية ، وكذلك بالنسبة لتشکيل الحکومة خير دليل على ما نقول، فبسبب الاحتلال الإيراني جرى عرقلة الحياة السياسية بکل الطرق من أجل فرض إملاءات وشروط على القوى السياسية الوطنية اللبنانية التي تمثل کافة شرائح وأطياف الشعب اللبناني، كما أن مجلس النواب صار في کثير من الأحيان عبارة عن معرقل ومعطل للحياة السياسية، هذا إذا ماترکنا المساعي الجارية من أجل إبعاد لبنان عن محيطه العربي وجعله قاعدة لانطلاق کل ماهو ضار ومشبوه للأقطار العربية.
ليس هناك من شك بأن حزب الله هو الذي يقوم بتنفيذ کافة مخططات الاحتلال الإيراني وفرض إملاءاته على لبنان والشعب اللبناني، وأنه يتحمل الآثار والنتائج السلبية لکل ذلك، لكن عليه أن يعلم جيدا أن الأيام دول ولايمکن لحال أن يبقى على ماهو عليه وأن سنن التاريخ تعمل عملها شئنا أم أبينا.
وخلاصة القول، أن الشعب اللبناني وبعد کل الذي ذاقه على يد هذا الزمن الرديء الذي سلبه کل المظاهر الإيجابية ومنحه عوضا عن ذلك کل مظاهر البٶس والحرمان والمعاناة، فإنه بات يحن للماضي وحتى يتمنى عودة الوصاية الفرنسية للتخلص من هذا الزمن التعيس، فالشعب اللبناني يحب الحياة ، وهو معروف بحبه للحرية، كما أنه شعب مثقف ومبدع، يعشق الشعر والفنون والآداب، ولا يمكن والحال هذه أن يخضع ويستكين للاحتلال الإيراني ، فقد شهد لبنان عبر تاريخه انتفاضات وثورات ضد الطغيان والاحتلالات الأجنبية ، آخرها في العام 2005 عندما أجبر جيش نظام الأسد على الرحيل، وما هي إلا مسألة وقت حتى يتخلص اللبنانيون من الكابوس الإيراني الجاثم على صدورهم.
وهنا من المناسب جدا أن يرى العرب ماقد حل بلبنان على يد إيران وأن ينتبهوا لأوطانهم ويحافظوا عليها، لکي لايحدث لهم ماقد حدث للبنان وشعبه.
*د.السيد محمد علي الحسيني
الأمين العام للمجلس الإسلامي العربي في لبنان.