لا يقبل حزب الله أن يكون لاعبا محدود الفضاءات. تولى منذ ولادته التبشير بدور يراد منه تحويل لبنان برمته، وليس الطائفة الشيعية فقط، إلى ما من شأنه أن يصبّ داخل مصالح الجمهورية الإسلامية في إيران
مصلحة لبنان فوق الجميع
أن يعلن سعد الحريري أنه “بيّ السنّة” (أب السنة) في لبنان، فذلك أن الخطاب المتداول يأخذ حوافا قصوى لا تحتمل تدويراً للزوايا والنهل من معاجم الدبلوماسية. وأن يسكب هذا التوصيف في رد على حزب الله، وأمينه العام السيد حسن نصرالله، ففي ذلك تقاذف يعيدُ رفع الحدود حول صلاحية الطوائف وحدود انسيابها خارج حدودها الذاتية. بمعنى آخر فإن ما يعلنه سعد الحريري يمثل مواجهة لسعي الحزب، وزعيمه، في التدخل في شؤون الطوائف الأخرى، وإملاء شكل تمثيلها داخل المؤسسات اللبنانية.
لا يقبل حزب الله أن يكون لاعباً محدود الفضاءات. تولى منذ ولادته التبشير بدور يراد منه تحويل لبنان برمته، وليس الطائفة الشيعية فقط، إلى ما من شأنه أن يصبّ داخل مصالح الجمهورية الإسلامية في إيران. كان على الحزب أن يحسم أمر هيمنته على الشيعة في لبنان بالعقيدة والسياسة والمال وبـ”حرب الأخوة” الدموية التي خاضها ضد حركة أمل. وكان على الحزب أن يخترق بقية الطوائف تحت مسوّغ دعم المقاومة، وكان على الحزب أن يقتحم المجال المسيحي من خلال “ورقة التفاهم” مع الجنرال ميشال عون، بما وفّر له شرعية لبنانية تتجاوز مساحة الشيعة وقوّتهم في البلد.
سعد الحريري “بيّ السنة”، أمر لم يكن مسموحاً لوالده الراحل رفيق الحريري.
شكّل الحريري الأب ظاهرة استثنائية جعل للسنّة في لبنان زعيماً، يكاد يكون مرجعا واحداً، لكافة السنّة في البلد. تشتت الزعامة السنية في لبنان خلال الحرب الأهلية (1975 – 1990) لصالح هيمنة الفصائل الفلسطينية المتحالفة مع الأحزاب والقوى اليسارية والقومية. وتعددت الزعامة السنية في لبنان قبل الحرب وفق خرائط مناطقية، بحيث لم تأنس لزعيم واحد في الداخل، وأنست لزعامة الخارج سواء في القاهرة (في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر) أو الرياض، أو الاثنين معاً.
اعتبر السنّة أن زعيما اسمه رفيق الحريري أتاهم منقذاً من تهميش سياسي مهين كانت تمارسه سلطة الوصاية السورية.
حدث أن تمّ اغتيال مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد عام 1989، ونفى صائب سلام نفسه نحو سويسرا، ولاحقت أجهزة الأمر الواقع قيادات الميادين قتلا واعتقالا وترهيبا. كان يعرف سنّة البلد أن رفيق الحريري يأتي سالكاً طريق دمشق، لكنهم كانوا يحتاجون إلى رجل قوي يمثلهم ويدافع عن دورهم وطبيعة وظيفتهم داخل النسيج اللبناني، حتى لدى الحاكم في العاصمة السورية.
غير أن النظام السوري الذي تعامل مع الحريري بصفته ظاهرة مزعجة وجب التعايش معها، وضع للرجل قيوداً وخطوطا حمراء داخل لبنان وداخل الطائفة، في سعي لوقف ما هو ظاهرة لبنانية محلية من التسرّب نحو سوريا نفسها، نظاماً وكتلاً اجتماعية وشبكات مصالح.
منعت سلطة الوصاية رفيق الحريري طوال فترة نشاطه السياسي من أن يزور منطقة البقاع ومنطقة الشمال في لبنان. كانت دمشق تعتبر “سنّة الأطراف” غنيمة لها يندرجون ضمن المجال الحيوي السوري الذي لا يمكن السماح باختراقه. تروي إحدى الشخصيات الشيعية التي كانت قريبة من رفيق الحريري أنه نقل للحريري شكوى المزارعين في منطقة بعلبك الهرمل في الشمال الشرقي للبنان، وأن الحريري، بما عرف عنه من منطق عملي حسابي، اعتبر أن الحل بسيط يكمن في ترشيق سُبل وإنشاء هيئات وإقامة مشاريع لتنشيط مجال المزارعين الاقتصادي. تروي الشخصية أن الحريري كان متحمسا وجادا إلى أن أبلغه بعد عدة أيام أن ينسى الموضوع.
كشف بعد ذلك أن الثنائية الشيعية أبلغت الحريري رفضها لتدخل رئيس حكومة البلد (السني) في شؤون منطقة لبنانية ذات طابع شيعي. حدث أمر كهذا في بداية ظهور الحريري حين نشط من خلال شركة “أوجيه لبنان” في الدفع بآليات الشركة لإزالة الدمار وفتح شوارع العاصمة. قيل إن بعض الآليات دخلت بعض المناطق المسيحية من العاصمة فرُشقت بالحجارة. كانت الطوائف حريصة على حدود نفوذها وجغرافيته، حتى لو كانت الوصاية السورية لم تعرف حدودا تمنعها من ممارسة هيمنتها كاملة على كافة الطوائف، بالقوة والإكراه أحيانا، وبفرض التابعين لها ممثلين لها داخل خرائط المحاصصة أحيانا أخرى.
عمل الحريري الأب على إنشاء تيار المستقبل بصفته تيارا سياسيا عابراً للطوائف. لم يكن الأمر يسيرَ التسويق داخل بعض شرائح المجتمع السنّي في لبنان، ذلك أنهم كانوا يستغربون لجوء الحريرية السياسية للمجال الوطني المتجاوز للطوائف، في وقت تفخر بقية الأحزاب الكبرى بدفاعها عن حقوق المسيحيين والذود عن محرومية الشيعة في لبنان.
ورث سعد الحريري تلك المدرسة، وأمعن في تخليصها من أي شبهة مذهبية سنية في عزّ التوتر الإقليمي الكبير بين السنّة والشيعة. ذكّر في المؤتمر الصحافي الأخير بواجهات التيار، من مستشارين وقيادات ونواب ووزراء عابرين للمذاهب والطوائف، لكنه مع ذلك أعلن بأنه “بيّ السنة”.
يدرك ساسة لبنان أن لهجة نصرالله كانت عالية النبرة تستبطن تحريضا ينفخ بالتوتر إلى الشارع ومتفرعاته. يدركون أيضاً أن غضب الرجل وتذكيره بسوابق القوة ضد اللبنانيين لا تتسق مع مزاعم النصر التي يروّجها حول معاركه في سوريا، ومعارك إيران في المنطقة برمتها. يدركون أيضا أن الحزب يواجه ضغوطا كبرى، ليس أقساها تلك التي تشي بها العقوبات الأميركية (بما في ذلك وضع نجل نصرالله على لوائح الإرهاب)، بل إن الضغوط الحقيقية الموجعة هي تلك التي تأتي من بيئته ومن داخل الطائفة الشيعية نفسها التي باتت، وإن ما زالت تجاهر بدعمها لـ”المقاومة”، تطالب بالالتحاق بالبلد في همومه وحاجاته وطموحاته بركب ورش تحقيق أفضل مستويات العيش الكريم.
يسعى حسن نصرالله لإبلاغ من يهمه الأمر أنه “بيّ الشيعة” في لبنان. بدا أن أدواره العابرة للحدود اللبنانية إلى نضوب، ويريد أن يعوض عنها بتأكيد أدواره العابرة للطوائف في لبنان. دعم حزب الله، بقوة، قانون انتخابات يمكّنه من اختراق الطائفة السنية بشخصيات موالية. ويعتبر أن إجباره اللبنانيين على انتخاب ميشال عون رئيسا هو قمة الاختراق للمسيحيين وموقعهم الدستوري الأول في البلد. وينطلق نصرالله من معطيات وحسابات داخلية ترفع من حوافزه للإطباق الكامل على حكم البلد، وتجعل من مسألة توزير سنّته واجهة لاستسلام الجميع، بما في ذلك عون والحريري.
بالمقابل، ويجب تأمل ذلك جيداً، ينطلق سعد الحريري من معطيات وحسابات أخرى. انقلب الحريري على ثوابت سابقة، وربما لم تحظ بغطاء إقليمي، حين دّعم سليمان فرنجية، “صديق” بشار الأسد، ثم ميشال عون، حليف حزب الله، لرئاسة الجمهورية.
قال الحريري، نفسه، قبل أيام إنها كانت خيارات لا تحظى بشعبية داخل طائفته. غير أن لأمر “التضحية من أجل مصلحة الوطن” حدوداً، وأن مسلسل التنازل له خطوط حمراء ليس فقط على مستوى التوازنات الداخلية، بل على مستوى ما يتطلبه المزاج الدولي المتحوّل حيال الظاهرة الإيرانية ومتفرعاتها.
يعود الحريري من باريس. قابل قادة واستمع إلى أصداء واشتمَّ عبقا دوليا. تقصّد نصرالله أن يطلق تهديداته فيما الحريري في باريس ملوحاً بأنه “بيّ الشيعة”. لم يستقوِ الحريري بأي أجواء دولية، ولا يبدو أنه يعوّل عليها وهو المدرك لما ينتظر لبنان من تشكيل حكومة يتمثل بها حزب الله. أراد نصرالله أن يفرض على لبنان سنته، ردُ الحريري جاء بسيطا “أنا بيّ السنّة”. لن يقبل الحزب بهذه الأبوة وقد لا يقبل بعض شخصيات السنّة ذلك، وربما أن الحل قد يكون بيد “بيّ الكل” في بعبدا.