تلميحات الولايات المتحدة بسحب الدعم إذا لم تستقم فرضية “المال مقابل الحماية” خطيرة وتحتاج إلى إعادة نظر إقليمية بما يحدث.
وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خلال مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير نظرية أميركية جديدة
سيسيل حبر كثير حول تشكيل ما أطلق عليه اسم “ناتو عربي” دعا إليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وعلى الرغم من أن للمشروع أعراضاً جدية سواء في الاجتماع العسكري للدول الأعضاء في الكويت أو في الاجتماع السياسي لوزراء خارجية تلك الدول مع نظيرهم الأميركي مايك بومبيو في نيويورك، فإن في داخل هذا المخلوق وهن يجعل من تحقيق ما أُعلن أمرا لا يمكن حتى الآن تلمس معالمه.
والحلف الاستراتيجي للشرق الأوسط (ميسا) وفق ما أعلن في القمة الأميركية الإسلامية التي عقدت في مايو من العام الماضي، يضم، على ما يؤمل، كلاً من دول مجلس التعاون الخليجي الست إضافة إلى مصر والأردن. أما أهداف هذا الحلف، وفق ما ينادي به ترامب وفريقه، هو مواجهة إيران وما تشكله من أخطار على دول المنطقة.
على هذا، فإن على العواصم الثمانية أن تنخرط داخل خندق سياسي عسكري واحد ضد إيران وأخطار عرضية أخرى، في وقت لا يبدو أن هذه العواصم مجتمعة في رؤيتها لإيران أو متكاملة في مقاربة العلاقة معها.
قام حلف شمال الأطلسي (ناتو) الشهير عام 1949 وراج شأنه بعد اندلاع الحرب الكورية في الخمسينات، وبات درع الغرب الواحد ضد الاتحاد السوفييتي ومنظومته العسكرية التي شكلها مع الدول التابعة له داخل ما أطلق عليه اسم “حلف وارسو”. ولئن تآلف عسكر الغرب داخل منظومة دفاع مقابل تآلف عسكر شرق داخل منظومة مقابلة، إلا أن قاسماً مشتركاً سياسيا وأيديولوجيا شكّل اللبنة الحقيقية التي وفرت للمتحالفين لحمة ومبرر وجود.
لا يمتلك “ناتو” العرب المواصفات الضرورية لقيام تحالف يضع قوى عسكرية عربية في خندق واحد ضد عدو واحد. لم يحصل ذلك حين اجتمعوا على أن إسرائيل عدو للجميع، فما بالك وهم غير متفقين على الطابع العدواني لنظام الولي الفقيه. ثم ما كان عند الغرب نسيجاً أيديولوجيا يكاد يكون “لاهوتاً” في محاربة الشيوعية وأعراضها في العالم، لا يبدو أن عند العرب متوفر للعمل على مكافحة جماعية للدولة التي سبق أن جاهرت أنها إمبراطورية عاصمتها بغداد وأعلنت دون وجل أنها تحتل أربع عواصم عربية.
شكلت قرقعة التحضير للحلف الموعود مناسبة لتكون قطر حاضرة في الاجتماع العسكري في الكويت كما ذلك السياسي في نيويورك. التقى وزراء خارجية دول المقاطعة تحت سقف “ناتو العرب” مع وزير خارجية قطر. وعلى الرغم من أن تلك الفلاحة قد تشي بأن وفاقا سيتحقق قريباً ينهي الأزمة مع قطر، إلا أن حقيقة الأمر غير ذلك تماما، على نحو يكشف هشاشة فكرة الحلف وتصدع قوانينه. فقضية المقاطعين لقطر لم تعد خلافاً مع الدوحة، بل، وفق ما أعلن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، هي “أننا لا نريد أن يكون لنا علاقة بهم”.
على هذا سيكون من السخرية أن توضع القوى العسكرية للدول المختلفة في ما بينها داخل حلف من أجل رد العدوانية الإيرانية. وإذا كان في الأمر موانع بنيوية في أبجدية بناء التحالفات، فإن موقف الدوحة من طهران يختلف عن مواقف دول خليجية، لا بل أن خطاب قطر الراهن يعتبر إيران دولة صديقة، فيما تكشف وقائع الأشهر الأخيرة أن قطر وإيران باتا في حالة تشبه التحالف منذ إعلان السعودية ومصر والامارات والبحرين مقاطعتها للدوحة.
لن يكون مشروع “ناتو العرب” مقدمة لإنهاء الأزمة مع قطر، أو على الأقل لم تتصاحب إرهاصات هذا التحالف مع أي أعراض من واشنطن والدوحة والعواصم المقاطعة تشي بأن هناك خارطة طريق لتحقيق وفاق ما. وعلى هذا تبدو الولايات المتحدة عاجزة عن توفير أرضية لإنهاء الأزمة، كما أنها غير قادرة على الدفع بتجاوزها بصفتها تفصيلا لا يمنع تشكيل التحالف العسكري الموعود. وعلى هذا أيضا يحمل مشروع التحالف في حواشيه ألغاماً قابلة للانفجار في أي وقت لإجهاضه على نحو يدفع الأطراف المعنية، بما في ذلك إيران للمفارقة، إلى عدم أخذ الأمر على محمل الجد.
تبدو عواصم “التحالف” تنخرط في تمرين تجريبي له طباع إعلامية لا علاقة لها بأصول إنشاء التحالفات. بقيت دعوات الرياض لإقامة تحالف إسلامي أو دعوات مصر لإقامة قوة عسكرية عربية مشتركة جعجعة دون طحن، ذلك أن ما بين الدول المدعوة من التناقضات وتباين الأجندات واختلاف المصالح وتعدد الأمزجة ما يجعل من أمر انخراطها في جسم عسكري واحد أمراً مستحيلاً.
تبتعد مصر عن الانخراط العسكري الخارجي بحذر وقاربت الحرب في اليمن وفق هذا الحذر. ثم أن الرؤية المصرية لإيران تختلف عن رؤية حلفاء لها في هذا الصدد. والأمر نفسه ينطبق على الأردن الذي لا يبدو أنه متحمس للانخراط في تحالف عسكري فضفاض الوجهة والواجهة والوجاهة.
غير أن الحرارة المستجدة التي دبت في جسد هذا المشروع تنهل حيويتها من خطط إدارة ترامب في الضغط على إيران، لكنها في الوقت عينه تشي بأعراض استقالة خجولة تلمح بها واشنطن لدول المنطقة.
يعود ترامب للحديث عن رفضه تحمل أعباء توفير الأمن الاستراتيجي لدول المنطقة داعيا إياها إلى تحمل ذلك ذاتيا، ومن خلال التحالف والتآلف وتأمين درع محلي يقي المنطقة مما يهددها. يبدو المشروع الأميركي ورشة لتصدير أسلحة أميركية جدية ترفد الحلف بعوامل الردع، وتنشّط في الوقت عينه قطاع صناعة الأسلحة في الولايات المتحدة، كما أنها تمرين سطحي لوضع حلفاء واشنطن في المنطقة في سلة واحدة تحت عنوان “أحبوا بعضكم يا أصدقائي”.
لم ير وزير الخارجية الأردني من اجتماع وزراء خارجية “ناتو العرب” ووزير الخارجية الأميركي إلا مجرد أفكار. فيما لم يصدر عن الحاضرين إلا مواقف رتيبة خجولة فيها كثير من الدبلوماسية ومن المسايرة للحليف الكبير الذي يشن حملته الشهيرة ضد إيران. غير أن قرار واشنطن سحب بعض منظومات الردع التابعة للباترويت من بعض دول المنطقة تحت مسوغ إعادة التموضع ضد أخطار طارئة مصدرها روسيا والصين، وضع مشروع تحالف الشرق الأوسط في إطار آخر جديد فيه تهديد مبطن لأهل المنطقة بتراجع أولويات المنطقة داخل الأجندة الأميركية على ما كانت إدارة باراك أوباما تلمّح في السابق.
أمام الرئيس الأميركي انتخابات نصفية في نوفمبر المقبل يجوز من أجلها إطلاق المواقف وتسريع المبادرات والترويج لتحولات كبرى. والواضح أن عواصم العالم كما عواصم المنطقة تتأمل وتراقب الاستحقاق الانتخابي الأميركي، فتصغي وتستمع لضجيج واشنطن فلا تعارضه ولا تعانده، ذلك أن إعلان الأحلاف غير قيامها وأن الضجيج في المطابخ لا يعني أن أطباقا شهية ستخرج من الأفران.