العقوبات الأميركية، وليس الحنان الاوروبي الروسي الصيني، هي التي أجبرت إيران، بمعتدليها ومحافظيها، بمرشدها وحرسها وبرلمانها، على الانضمام إلى الاتفاقية الدولية لمحاربة تمويل الارهاب وغسيل الأموال.
نائبات إيرانيات يسجلن احتجاجهن على الاتفاقية نائبات إيرانيات يسجلن احتجاجهن على الاتفاقية
تقدم إيران أوراق اعتماد جديدة للخروج من لائحة الدول الراعية للإرهاب. يطل الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليتحدث بثقة مفرطة عن حتمية أن تأتي طهران إليه للتفاوض لإبرام صفقة جديدة من صناعته تكون بديلاً عن صفقة سلفه باراك أوباما الذي لطالما اعتبره سيء الذكر وجبت إزالة آثاره من تاريخ الولايات المتحدة.
لا تتحدث واشنطن كثيراً عن الاتفاق النووي. باتت اتفاقية إيران ومجموعة الـ 5+1 من الماضي حتى لو سعى الأوروبيون إلى إجتراح آليات مالية تحمي الشركات الأوروبية العاملة في إيران وتؤمن لها مسارب تمويل شرعية. يكرر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لازمةً لم يحدّْ عنها منذ أن فرض شروطه الـ 12 الشهيرة بعد أيام على إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي في مايو الماضي. إيران راعية للإرهاب، وفق تعبيره، وعلى أساس هذه المسلّمة تُفرض العقوبات وتتصاعد تباعاً إلى حدود موجعة في نوفمبر المقبل.
تنصاع إيران لضغوط الأصدقاء قبل الخصوم ويصادق برلمانها على مسألة الانضمام إلى الاتفاقية الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال. تسارع طهران للانضمام إلى الاتفاقية لتلافي وضعها على لائحة سوداء تمنع عنها التعاملات المالية الدولية.
تلكأت طهران كثيراً قبل ذلك. ذهبت الخطب القريبة من المرشد علي خامنئي إلى اعتبار الأمر رجساً من عمل الشيطان ومؤامرة من قبل الشيطان الأكبر نفسه. فأن تصادق إيران على معاهدة تفرض، تحت عنوانها، أن تتحد كافة دول العالم ضد الإرهاب وغسيل الأموال، فذلك يواجهه جدل حول اتساق ذلك مع الشرع والدستور، وفق رسالة رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام محمود هاشمي شاهرودي، إلى أحمد جنتي أمين مجلس صيانة الدستور، وصولا قبل أيام إلى اكتشاف الفتاوى التي تجعل من الرجس حلالا يجوز التعامل فيه.
لا تخشى طهران مما قد تحمله الاتفاقية من أفخاخ تهدد مسالك التمويل الذي يُضخُّ صوب حزب الله أو حركة حماس أو جماعة الحوثي أو أي جماعات تابعة أخرى. يجري ذلك التمويل وفق خطوط خلفية لا تلحظها مجموعة العمل المالي الدولية المعروفة بـ FATF التي تتولى مهمة دراسة التقنيات واتجاهات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. تحدث المحافظون كثيراً حول قلقهم على تمويل “الممانعة” وحرصهم على استمرار دعمهم لـ “المقاومة” في المنطقة. بيد أن هاتفاً عالي المقام أوحى لهم بكلمة سر جديدة، أن سيروا بهذا الاتفاق وعلى بركة الله.
لسان حال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف يقول إن الانضمام إلى الاتفاقية لن يرد “الشر” الأميركي لكنه سيتيح للأصدقاء الدفع قدماً بخيرهم. خاطب البرلمان مبشراً بمزايا الأمر وفوائده، هامساً، بما يشبه السرّ الكبير، أن محافظ البنك المركزي الروسي أخبره أن موسكو لن تستطيع التعامل المالي مع إيران إذا بقيت طهران خارج هذه الاتفاقية. قيل إن الأوروبيين، لاسيما ممثلتهم للشؤون الخارجية، فيدريكا موغيريني، قد أبلغته بضرورة ذلك لإنقاذ الاتفاق النووي، وأن الحلفاء في الصين طالبوا والحوا وجعلوا الامر شرطاً.
باختصار تبتلع طهران علقما آخر لطالما رددت أنه حرام في أعراف الجمهورية الاسلامية. كابر المرشد الإيراني طويلا وراحت منابره تهدد وتهول ضد أي صفقة تحدّ من استقلالية إيران في تنفيذ برنامجها النووي، لكنه عاد ومنابره لرعاية صعود حسن روحاني وفريقه والتصفيق لإنجازهما في فيينا 2015. والمشكلة أن ما ارتضاه خامنئي لم يرتضه ترامب، وما ارتضاه حالياً لإرضاء شركاء الاتفاق النووي الصامدين، قد لا يرضي سيد البيت الأبيض ولا يثنيه عن أهوال عقوبات الشهر المقبل.
تتصدى الاتفاقية لتمويل الأرهاب والمنظمات الإرهابية المدرجة على لوائح الأمم المتحدة. لا تعترف المنظمة الأممية، حتى الآن، بلوائح الإرهاب المستقلة التي تصدر عن هذه الدولة أو تلك، لاسيما الولايات المتحدة. ووفق ذلك، فإن “إرهابيي” إيران وفق لوائح واشنطن ليسوا على لوائح الأمم المتحدة. فلا إجماع أممي حول إرهابية حماس وحزب الله وعصائب أهل الحق والحوثيين…إلخ. وعليه فإن الاتفاقية، وحتى إشعار آخر، لا تقلق الغيورين على “المقاومة” والمعسكر الممانع. غير أن القلق الحقيقي الذي يعرفه أهل الحكم في إيران جيداً مرتبط بالنظامين المالي والاقتصادي داخل البلاد، أي بشؤون البيت وطقوسه.
تفرض الاتفاقية شفافية كاملة للنظام المالي والمصرفي والتبادلات المالية. سيكون الأمر صعبا على أولئك الذين يكسبون الأموال السوداء من خلال التهريب والرشوة والاختلاس وغيرها، ويقومون بتنظيفها في البنوك المحلية. فقواعد مجموعة العمل المالي ستجعل أمر ذلك مستحيلاً.
سيكون الاقتصاد الإيراني وشبكاته المالية مكشوفاً أمام “الأعداء”، وفق النائب المحافظ محمد دهقان، الذي يذهب إلى الإشارة إلى أن الاتفاقية ستحرم أي إيراني تفرض واشنطن عليه عقوبات من إمكانية أن يفتح حسابا بنكيا في إيران نفسها. وفي بال الرجل ما فرضته العقوبات الاميركية على حزب الله من قيود مصرفية لبنانية أغلقت حسابات ومنعت بعض القريبين من دوائر الحزب من فتح حسابات.
قد يكون في الأمر مبالغة يبثها المنتقدون ضد فعلة البرلمان، لكنها مبالغة يراد منها ربما إظهار جدل داخلي حاد أمام العالم يفصح عن حجم “التضحيات” التي يقوم بها نظام طهران لإنقاذ الاتفاق النووي والتكرم على العالم بعدم استئناف البرنامج الأصيل الذي لطالما اشتُبه به عسكريّ المرامي.
يحتاج تطبيق مشروع القانون إلى مصادقة المجلس الدستوري. أُقر القانون بأغلبية ضئيلة (143 من أصل 268 نائبًا) لكنه أُقر. بيد أن طهران سترفق هذه المصادقة بفخ المجلس الدستوري ملوحة ربما بإسقاط القانون إذا ما تلكأ الأصدقاء في ردّ أذى الخصوم. ومع ذلك لا يهم الآن ما إذا كانت إيران تشتري الوقت وتوحي للعالم بأنها شريكة معه في مكافحة الإرهاب. المهم أن إيران التي صدّعت رؤوس الإيرانيين منذ 1979 بأنها كائن منفصل عن “الاستكبار العالمي” وشروطه، باتت تكتشف هذه الأيام خصال المعاهدات الدولية التي تفرض مراقبة وعيونا لا مفر لإيران من الخضوع لها. والأمر يكشف بشكل صارخ حجم الأزمة الداخلية الإيرانية التي لم يعد بالإمكان مواراتها عبر لغة خشبية شعبوية لا علاقة لها بأبجديات القانون الدولي وقواعد النظام العالمي.
ولئن تنهزم إيران أمام العقوبات الاقتصادية الأميركية وينكشف وهن اقتصادها وانهيار عملتها فتندفع لمسايرة اوروبا والصين وروسيا، فإن الثابت أن العقوبات الأميركية، وليس الحنان الاوروبي الروسي الصيني، هي التي أجبرت إيران، بمعتدليها ومحافظيها، بمرشدها وحرسها وبرلمانها، على الانضمام إلى هذه الاتفاقية الدولية. وعلى هذا سيبتسم ترامب كثيراً وسيرى في الأمر علامات وأعراض جديدة من نبوءته الشهيرة التي يرددها هذه الأيام بغرور: سيأتون إليّ وسيوقعون على صفقة أخرى.