حين أعلنت منابر إيران أن طهران بريئة من عملية إطلاق الصواريخ في الجولان، عنى إعلانها أنها، ووفق عقيدة «لو كنت أعلم»، فهمت رسائل الرد الإسرائيلي ضد مواقعها السورية، وأنها جاهزة للتفاهم. لا تحيد طهران عن ثوابتها الاستراتيجية في مسألة مقاربة إسرائيل: تشتم إسرائيل لكنها لا تواجهها في الميادين مباشرة. تعود طهران لتكتيكات الصراع من خلال الوكلاء، مسقطة بذلك ما قيل إنه خيار للجنرال قاسم سليماني في رفع سقف المواجهة المباشرة، ولو رمزياً (صواريخ كاتيوشا محدودة الأضرار)، لعلها تخلط الأوراق في مواجهة الغبار الكثيف الذي نفخه قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب بلاده من الاتفاق النووي.
لا تطلق إيران نيراناً مباشرة ضد إسرائيل، لا بل في ذاكرة العالم أنها تعاونت مع تل أبيب في ما عرف إبان حربها مع العراق بـ «إيران غيت». وفي ضوء هذه الحقيقة التي تريد طهران تأكيدها، تنطلق الديبلوماسية الإيرانية صوب الصين وروسيا ثم الاتحاد الأوروبي للرد على الاستحقاق الذي فرضه ترامب بإدارة الظهر لاتفاق إيران مع مجموعة 5+1 الموقّع عام 2015.
ومن ينفي، وربما يرفض، أن تمسّ نيران إيرانية أهدافاً إسرائيلية، فلا شك أنه ينفي، وربما يرفض، الدعوات لتدمير إسرائيل على حد ما تتوعد شخوص النظام وأبواقه. تحتاج أوروبا إلى هذه المسلّمات الإيرانية كي تقنع الرأي العالم في بلدانها بأن إيران لا تمثل خطراً على إسرائيل، كما أن الحفاظ على الاتفاق النووي معها لا يشكل تهديداً لها. لا بل أكثر من ذلك، تتسرب تقارير إسرائيلية، كان لافتاً تكرار تداولها، عن جهد روسي جدي للعب دور في رسم تقارب ما بين إسرائيل وإيران. لا يهم إذا كان هذا الضجيج واقعياً، لكن طالما أن موسكو لم تنف الأمر، فالضجيج حول الأمر يروق لإيران ويعبّد طرقات وزير خارجيتها محمد جواد ظريف لطرق أبواب العواصم، مروّجاً لـ «مظلومية» داهمت بلاده الملتزمة ببنود الاتفاق النووي، وفق تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من ظلم يفتري به ترامب على إيران.
يغتنم الأوروبيون الحدث الإيراني ليصفّوا حسابات متراكمة بينهم وبين رجل الولايات المتحدة القوي في البيت الأبيض. ترجّل المرشح دونالد ترامب باتجاه رئاسة بلاده حاملاً أحقاداً ضد «القارة العجوز» راح ينثرها عناوين ترويجية لحملته الانتخابية. عبّر ترامب عن نزق أميركي يرجع ربما إلى «خطة مارشال». عيّر الرئيس الأميركي الأوروبيين بالحماية التي توفرها بلاده بأسعار متهاودة. هددهم بحرد وإهمال للحلف الأطلسي إذا لم يرفع الأعضاء مساهماتهم المالية، وراح يهوّل عليهم بحرب تجارية تدفع عن بلاده ظلماً مزعوماً في الميزان التجاري بين دفتي الأطلسي.
رفض ترامب مصافحة المستشارة الألمانية أنغيلا مركيل حين زارته بُعيد انتخابه رئيساً. أوحى لرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أن لاعتمادها على الولايات المتحدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أثماناً لا يمكن أن تتساهل فيها العلاقة التاريخية الشهيرة بين لندن وواشنطن. وراح على نحو مناف للطبيعة يدّعي حميمية في علاقته بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على نحو مخالف لمسار العلاقة الأميركية- الفرنسية ومناقض لذلك الالتباس التاريخي الذي طبع مزاج باريس تجاه واشنطن منذ الجنرال شارل ديغول.
يعتبر الأوروبيون أن شؤون الشرق الأوسط ميدان دولي تلعب الولايات المتحدة دوراً محورياً داخله. لكنهم في الوقت ذاته يرصدون الثمن الذي تدفعه دولهم نتيجة مصائب هذه المنطقة بحكم الجيرة والتماس الجيواستراتيجي. فيما تبقى الولايات المتحدة عملياً بمنأى من التداعيات المباشرة لأزمة سورية والإرهاب واللجوء إلخ… ويرى الأوروبيون أيضاً أن غيابهم عن ورش الفعل في الشرق الأوسط كان بضغط من واشنطن إبان إدارة الرئيس السابق باراك أوباما وأنهم يدفعون، حتى بعد تبدل الإدارة هناك، ثمن هذا التخبط الذي ما زال يسود الخيارات التي يتخذها سيد البيت الأبيض داخل براكين المنطقة، لتضاف إليها مسألة نقل السفارة الأميركية إلى القدس كما مسألة الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.
لا يروق لفرنسا وبريطانيا وألمانيا ما يشبه الإهانة التي وجهها ترامب لزعماء «زحفوا» أخيراً وقبل ذلك باتجاه واشنطن محاولين ثني الرئيس الأميركي عن تمزيق الاتفاق النووي مع إيران. وقد يبدو أن ما صدر عن بعض العواصم الأوروبية من رفض للسلوك الأميركي، لا سيما ذلك المتعلق بتهديد الشركات الأوروبية التي تتعامل إيران، لا يشبه في الشكل والمضمون ما يصدر عن «حلفاء تاريخيين». عادت بريطانيا، بعد أسابيع من المواجهة مع روسيا على خلفية قضية سكريبال، لتتقاسم مع موسكو الموقف المتمسك بالاتفاق النووي مع إيران. وصدر عن باريس ما يطيح «أيام العسل» التي قضاها ماكرون في ضيافة نظيره الأميركي، فيما تقود المستشارة الألمانية، بخبث، حملة، تكاد تكون شخصية، ضد رجل البيت الأبيض.
ستخطئ إيران كثيراً إذا ما اعتقدت أن الأوروبيين سيذهبون بعيداً في خلافهم مع الولايات المتحدة كرمى لعيونها. يبدو خلاف أوروبا مع واشنطن شكلياً بحيث يدور التباين حول سبل الاستجابة لشروط ترامب وليس رفضها. الاتفاق النووي «لم يعد كافياً»، كما قال ماكرون في أيلول (سبتمبر) الماضي، فيما تصدر عن برلين ولندن رسائل في الاتجاه نفسه تأخذ أشكالاً متضامنة مع إسرائيل في مسألة محاصرة برنامج الصواريخ الباليستية كما في مسألة النفوذ الإيراني في سورية.
وعليه، فإن أوروبا في مماحكاتها مع واشنطن تستدرج تلبية طهران لما بات إجماعاً دولياً لـ «وقف أنشطة إيران المهددة الاستقرارَ».
تزرع أوروبا عناداً ضد الموقف الأميركي لكي تقطف ثماراً في حقول إيران. لا يضير واشنطن أن يأتي الأوروبيون على طريقتهم بما تريده. تدرك طهران جسامة الأمر وتعرف أن عرضية التناغم مع أوروبا لن تقاوم حتميات علاقة الأوروبيين مع واشنطن. تستقيل إيران من مواجهة إسرائيل علّها تعيد الأميركيين إلى حلبة أخرى تستعد أوروبا لإقامتها من أجل تسوية جديدة.