قائمة طويلة من تصريحات للرئيس الأميركي لا تتحول إلى قرارات أو سياسات للولايات المتحدة.
لم يشيّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب جداره الشهير على الحدود الأميركية المكسيكية ولم يلغ اتفاقات نافتا الاقتصادية مع المكسيك وكندا ولم يبتعد عن الحلف الأطلسي وعن الاتحاد الأوروبي كما وعد أثناء حملته الإنتخابية. أعلن الرجل أنه سيسحب القوات الأميركية من أفغانستان فلم يفعل، بل عززها حين أصبح رئيساً وقذفها بـ “أم القنابل”. هدد بعظائم الأمور ضد كوريا الشمالية وهو يتحضّر للقاء زعيمها خلال أسابيع. وعليه فإن حديثه في أوهايو عن سحب القوات الأميركية من سوريا لن يخرج عن هذا السياق الممل من المواقف “التويترية” والشعبوية التي سرعان ما تقوم بـ “المؤسسات” بتصويبها وتشذيبها وتهميشها وإدراجها ضمن تصنيف أن “الرئيس يمثل نفسه” وفق تصريح شهير لوزير الخارجية المقال ريكس تيلرسون.
قد تكون صحيفة الواشنطن بوست دقيقة في تحليلها الذي يتكئ على حقيقة أن “هذا الرئيس لا يعلم”. يلغي ترامب إرسال مبلغ 200 مليون دولار كان تيلرسون تعهد بها لتمويل ملف إعادة الإعمار في المناطق المحررة من تنظيم داعش. والمقصود بتلك المناطق هي الرقّة والجوار، أي تلك التي يسيطر عليها حلفاء واشنطن الأكراد. لم يتخذ الرجل قراره بناء على تقارير رسمية صادرة عن مؤسسات واشنطن الرسمية، بل كرد فعل على مقال إخباري اكتشف فيه أن بلاده بصدد انفاق المبلغ في تلك البلاد البعيدة.
ليس صدفة أن القوات الأميركية اختارت السيطرة على منطقة في سوريا تمثل 30 بالمئة من مساحة البلد الإجمالية يتجمع داخلها ما نسبته 95 بالمئة من إنتاج سوريا من النفط. الأمر يقبض على مصادر الطاقة في ذلك البلد والتي تباهت روسيا بأنها كانت وقعت اتفاقات مع حكومة دمشق لاستغلالها. وما قام به البنتاغون في سوريا يتّسق، بالصدفة أو عن سابق تصور وتصميم، مع خطاب المرشح دونالد ترامب الذي بشّر بأنه يريد أن “يأخذ نفط العراق”، فإذا بالقوات الأميركية تتمدد باتجاه حقول سوريا النفطية.
تقول الواشنطن بوست إن ترامب لو كان يعلم أن قوات بلاده تسيطر على منابع النفط السوري لما كان أعلن نيته سحب القوات الأميركية، المحتمل أن يكون سريعاً، من تلك البلاد. وبالتالي فإن الصحيفة التي لا تحب هذا الرئيس تلمح أنه “لا يعلم”.
تحدث الرئيس الأميركي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان قبل أيام، وقبلها بأسابيع تحادث مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وفي كلا الاتصالين أُعلن أن المحادثات تناولت شأن سوريا، حتى أن ترامب أعلن عقب اتصاله مهنئا بوتين بعد إعادة انتخابه رئيسا، أن الزعيمين قررا اللقاء قريبا لنقاش مسألتين: سوريا وإيران.
“انسحب” الرئيس في أوهايو من سوريا قبل أن يناقش أمر ذلك مع بوتين. استدعى الأمر تصفيق الحضور الذين ربما لا يعرفون أين هي سوريا ولا يعرفون أن لبلادهم قوات هناك، ذلك أن في نبرة الرجل عن الأمر ما فهم الجمع أنه يستدعي تصفيقا حاداً.
لرئيس الولايات المتحدة أن يقرر سحب جنوده من سوريا. انتهت مهمة قواته بالقضاء على تنظيم داعش، ولا نعلم على ماذا يعّول لمنع عودة التنظيم الإرهابي في ظل فراغ عسكري وأمني وسياسي وواقع غياب دولة مركزية في هذا البلد. لكن السؤال المنطقي المكمّل أيضا هو أنه لماذا لا يسحب ترامب قوات بلاده من العراق حيث من المفترض أنه تم القضاء على “داعش”، لاسيما وأن في العراق حكومة مركزية وقوات عسكرية وأمنية تستطيع نظرياً تعبئة فراغ انسحاب أميركي مفترض.
ثم أن ترامب في “خطاب” أوهايو بشّر الأميركيين بأن الولايات المتحدة تريد أن تتفرغ لمهمات أمنية كبرى، وطبعا لم يعرف الجمهور عما يتحدث وعن أي مهمات. والرئيس الذي ينتظر بفارغ الصبر شهر مايو المقبل ليعلن ربما الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، يبلغ طهران من أوهايو أنه مهرول للخروج من سوريا تاركاً لها شقّ ممرها الشهير باتجاه البحر المتوسط مرورا بالعراق ولبنان.
ينسحب ترامب من سوريا و”فلنترك للآخرين الاهتمام بها”. من هم الآخرون؟ المنطق يقول إن خصوم الولايات المتحدة في سوريا سيغبطهم قرار ترامب المحتمل بالانسحاب من سوريا.
ستتخلص موسكو من منافس ثقيل حلّ في سوريا في سياق يتعارض مع تفاهمات بوتين مع الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما وستعود لها وحدها دفة التحكم بمسار سوريا ومصيرها.
وستتخلص طهران من حضور عسكري ُمهِّدد لهلالها الشيعي الموعود.
وستتخلص أنقرة ممن يرعى ويدعم ويؤيد خصومها الأكراد في شمال سوريا.
لكن المفارقة أن كل هذه العواصم لا تأخذ خطاب ترامب على محمل الجد، وهي التي اعتادت على الاستخفاف بتغريداته بانتظار ما ستفصح عنه المؤسسات الأميركية من توجهات رسمية تعبر عن “أميركا” وليس عن نزوات ساكن الأبيض.
ربما أن بعض المحللين اعتبروا “هجر” ترامب لسوريا إعلاناً يروم بعث رسائل متعددة الاتجاهات. لكن الأرجح أن الرجل قال كلامه توقاً لسماع ضجيج القاعة واشتياقاً لتصفيق كانت تضجّ به تجمعاته الانتخابية. وإن كان من رسائل من وراء إعلانه فإنها غير مفهومة وضاعت مضامينها داخل سياقات ما يدور في وحول سوريا هذه الأيام.
ربما يجب الميل إلى سلوك نفسي يرتبط بعِقَد ترامب الشخصية حيال منتقديه. بدا أن القرارات التي اتخذها منذ وصوله إلى البيت الأبيض ترمي إلى إلغاء قرارات سلفه باراك اوباما. كره ترامب سلفه و”ناضل” بجهد لإلغاء نظام الرعاية الصحية المسمى “أوباما كير”، وعمل على تقويض القوانين التي تميّز حضور أوباما عن أسلافه قانوناً تلو آخر. تحمس ترامب لإلغاء الاتفاق النووي ليس بالضرورة لعيوبه بل نكاية بما سهر أوباما على إبرامه.
يقرر ترامب وقف دعم مالي لسوريا وعد به تيلرسون الذي وصف ترامب يوما بـ “الأبله”، وهو لا شك يطيح بما دفع به مستشار الأمن القومي المقال هربرت ماكمستر ووزير الدفاع المرشح للإقالة جيمس ماتيس من استراتيجية أعلنها تيلرسون وتقضي بالبقاء في سوريا بعد القضاء على داعش.
“غادر” ترامب سوريا في أوهايو. اعتبرت واشنطن-المؤسسات أنها “تغريدة” من تغريدات من يهوى التغريد وقررت عقد اجتماع لمجلس الأمن القومي لإعادة “تقييم” الاستراتيجية الاميركية في سوريا. في هذه الأثناء تلاحظ موسكو وصول أسلحة أميركية ثقيلة لرفد الحضور العسكري الأميركي في التنف على الحدود السورية العراقية الاردنية، وتلاحظ أنقرة تعزيزات أميركية جديدة تصل إلى مدينة منبج المثيرة للجدل، وتتحدث التقارير عن ورشة ضخمة لبناء قاعدة عسكرية قرب حقل العمر النفطي تضاف إلى أكثر من 20 قاعدة متباينة الأحجام تنتشر فوق الأراضي السورية.
في واشنطن رئيس يغرد وحده فيما أذرع البلاد العسكرية تعمل بصمت خبيث في ميادين “لا يعلم” بها الرئيس.
نقلا عن : ميدل ايست أونلاين