ربح بوتين حروبه لأنه لم يجد في الغرب من يردّه عن خصومه، ويسعى حاليا لإنقاذ حربه في سوريا، فقط، لأن فيها من جاء يزاحمه على المكاسب والأرباح في هذا البلد.
الغرب لا يريد إعلان العودة إلى الحرب الباردة مع روسيا
لا يريد العالم الغربي إعلان العودة إلى الحرب الباردة مع روسيا. يرسل الرئيس فلاديمير بوتين كافة الأعراض العدائية التي تباشر تلك الحرب، غير أن ما يصدر عن الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي لا يزال لا يرى في حروب رجل الكرملين القوي إلا معارك متفرقة لا ترقى إلى مستوى تلك الحرب الباردة التي لاح نذيرها في منتصف القرن الماضي.
وربما لمناقشة الأمر يجب تسليط المجهر على مصطلح “العالم الغربي” ومدى حضوره، مقارنة بموقعه الاستراتيجي إبان الحرب الباردة. لم تعد روسيا سوفياتية شيوعية، ولم تعد موسكو تصدّر مضمونا أيديولوجيا منتقدا لرأسمالية هذا الغرب وإمبرياليته.
يبدو الصراع بين شرق وغرب هذه الأيام أقرب إلى صراع الجغرافيا منه إلى صراع الفلسفات السياسية بين الأقطاب. ففيما تعلن بكين أن زعيمها سيبقى زعيمها مدى الحياة، وفيما تؤشّر إعادة انتخاب بوتين رئيسا لروسيا على ميل مقبل لتكريس خلوده الرئاسي في الكرملين، فإننا لم نجد مقالا أو تصريحا أو تعليقا مستهجنا شلل التناوب على السلطة في تلك البلدان على النحو الذي كان معتمدا قبل عقود في التفاخر بمحاسن الديمقراطية الغربية، مقابل استبداد النظم شرقا.
هيلي اتهمت روسيا بالاعتداء على بلد عضو في مجلس الأمن موحية بأن لا شيء يمنع موسكو من الاعتداء على دولة أخرى عضو في نفس المجلس
توقف ذلك الغرب عن التبشير بدين الليبرالية وعقائد الديمقراطية، ولم يعد يجهد لتصدير تلك القيم نحو العالم. لا أحد في هذا الغرب يتحدث عن دمقرطة الشرق الأوسط، ولا أحد، طبعا، يتحدث عن ذلك في أي دولة في العالم، خصوصا في الصين وروسيا، ولا أحد في هذا الغرب شكك في نزاهة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في روسيا والتي حملت ما نسبته أكثر من 76 في المئة إلى خزائن بوتين الانتخابية.
وإذا ما توقف الغرب عن التبشير بلزوميته الأخلاقية مقارنة بتلك شرقا، فإن “العالم الحر” وفق التسميات المنتمية إلى زمن الحرب الباردة منقسم على نفسه على منوال ما أفرجت عنه الترامبية من علّة بنيوية حقيقية تفصل ما بين ضفتي الأطلسي، وما أفرج عنه البريكست من انقسام داخل الاتحاد الأوروبي. وعلى هذا يبدو ذلك “الغرب” عاجزا عن فهم ظاهرة بوتين أو مستخفا بها، مستسلما إلى سابقة تاريخية أطاحت بالإمبراطورية السوفياتية بصفتها ثابتة من ثوابت الإطاحة بأي إمبراطورية تصحو في روسيا.
أطل بوتين على الحكم عام 1999. خبر الرجل هذا الغرب من خلال عمله السابق داخل أجهزة المخابرات السوفياتية الكبرى. بعد وصوله إلى الحكم شن حربا دموية شعواء في الشيشان. ومذاك بات غزو جورجيا أو ضم شبه جزيرة القرم أو إشعال الحرب شرق أوكرانيا من عدّة الشغل التي قليلا ما يعاندها هذا الغرب. والأرجح أن ابن المخابرات السوفياتية أدرك، يوما بعد آخر، ليونة هذا الغرب وقدراته العجائبية على التأقلم مع البوتينية بصفتها عنوانا من عناوين العصر ومفاتيحه.
تتهم لندن روسيا بأنها وراء محاولة اغتيال العميل الروسي المزدوج، سيرجي سكريبال، وابنته فوق الأراضي البريطانية. وفي الاتهام البريطاني وجهان. واحد يثير مسألة التعرّض لجاسوس روسي مزدوج يعيش في بريطانيا وفق صفقة تبادل تقليدية مع جواسيس لروسيا كانوا يعملون في الغرب. وآخر متعلق باستخدام روسيا، حسب اتهامات لندن، لغاز الأعصاب المحظور والذي بدا أن موسكو ما زالت تنتجه وتخزنه، وعلى ما يبدو تنقله ليقتل داخل عاصمة غربية. اتهمت تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا، روسيا، واتهم بوريس جونسون وزير الخارجية، فلاديمير بوتين شخصيا بإعطاء أمر تنفيذ ذلك الاعتداء.
مقابل هذا الاختراق الخطير الذي لا تُحمد عقباه وفق اللغة التي كان الغرب يستخدمها إبان الحرب الباردة، جاءت ردود هذا الغرب مائعة مرتبكة وهنة تخصّبها وجهات النظر ونسبية المواقف. طالبت باريس بالدليل، وتحدثت برلين عن ضرورة عدم القطع مع موسكو، فيما ظهر ردّ فعل البيت الأبيض خجولا فيه روائح “رفع العتب”. وإذا ما أظهرت الإشارات الأولى أعراض العطب الذي أصاب هذا “الغرب”، فإن البيانات الرسمية الصادرة بعد ذلك عن الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي بدت وكأنها نصوص وسرديات يغيب عنها ما هو إجرائي تنفيذي عقابي ضد ذلك “الخطر” القادم من موسكو توجتها دعوة رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر بوتين إلى التعاون من أجل أمن القارة الأوروبية بعد انتخابه لولاية رابعة.
قد يبدو خطاب نيكي هيلي، سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، صارما في الجلسة التي خصصها مجلس الأمن لمناقشة الشكوى البريطانية. اتهمت هيلي روسيا بالاعتداء على بلد عضو في مجلس الأمن موحية بأن لا شيء يمنع موسكو من الاعتداء على دولة أخرى عضو في نفس المجلس، بيد أن ما هو صارم في النص بدا متبخرا في غياب ردود فعل عملية حقيقة عن منابر المؤسسات العسكرية والأمنية الأميركية، ناهيك عن اختفائها من أجندة دونالد ترامب في البيت الأبيض.
الصراع بين شرق وغرب هذه الأيام أقرب إلى صراع الجغرافيا منه إلى صراع الفلسفات السياسية بين الأقطاب
ما زالت واشنطن، وحلفاؤها الغربيون، تمتلك تفوّق الاقتصاد على ذلك في روسيا. وما زالت فلسفة القوة عند هذا الغرب محشورة في زاوية التباهي بما لمؤشرات البورصة وأسعار الطاقة والنفط من نفوذ على استقرار روسيا والبوتينية برمتها. يعمل فلاديمير بوتين وفق فلسفة أخرى ليست وليدة عبقرية منفردة، بل نتاج تسليم بأن موسكو لن تصارع ذلك الغرب على مسرح الاقتصاد والإنتاج وهياكل التمويل. لا تستند شرعية بوتين على رأس بلاده بما يحققه من إنجازات في مستويات النمو ومعدلات الدخل، بل بما يمكن تسويقه في الداخل الروسي من مشاعر قومية تردّ للروس كرامة ما فتئ بوتين يبشّر باسترجاعها ممن سرقوا أمجاد الاتحاد السوفياتي الراحل.
على هذا تبدو حروب بوتين حاجة لبقائه في قلب السلطة في روسيا. ربح كل تلك الحروب في الداخل فتعاظم حجم شعبيته، وبات تحمّل روسيا لتواضع الأداء الاقتصادي عملا وطنيا هو من عُدة صمود روسيا أمام هذا الغرب. ربح بوتين حروبه جميعها في الخارج. قضى على التمرد في الشيشان، كما على العصيان في جورجيا، كما على الطموحات الأطلسية لأوكرانيا، وأشرك شبه جزيرة القرم التي ضمها لروسيا قبل سنوات في الانتخابات الرئاسية الأخيرة شأنها في ذلك شأن أي منطقة في روسيا.
ربح بوتين حروبه لأنه لم يجد في الغرب من يردّه عن خصومه، ويسعى حاليا لإنقاذ حربه في سوريا، فقط، لأن فيها من جاء يزاحمه على المكاسب والأرباح في هذا البلد. وحتى في حمى تلك الحرب التي يتشارك فيها أطلسيون وروس ولاعبون آخرون، لا يريد الغرب التحدث عن حرب باردة، ويردد الكلام عن “الشراكة الصعبة” وفق تعبير المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
قبل أيام تحدث أندرس فوغ راسميسن، الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، عن أن روسيا سوف تتدخل في 20 استحقاقا انتخابيا ستجري داخل الدول الغربية من الآن حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة عام 2020. سيكمل بوتين حربه الباردة في الداخل الغربي بهجمات سيبيرية أو بأخرى كيميائية أو بأكثر من ذلك أينما سهل ذلك. وسيواصل الرجل سياسة خارجية هجومية يعتبرها ناجعة في الدفع به زعيما “صعبا” في هذا العالم.
في هذا الوقت سيواصل هذا الغرب الجدل حول اللجوء والإسلام والبريكست، وحول ما إذا كان ما يضرب الغوطة في سوريا هو غاز السارين أم غاز الكلور.