إذا ما كانت جهود أميركية عسكرية وسياسية تبذل لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة فإن مواجهة هذا النفوذ في اليمن أيضا هي المفتاح الأساس للحل كما هي لأي حل في بلدان النفوذ الأخرى، لا سيما في العراق وسوريا ولبنان.
الجمهورية الإسلامية تقتات منذ قيامها من تقاليد الصدام المستمر
قد تبدو الصيغ التي تعجُّ بها البيانات الرسمية الصادرة عن هذه العاصمة أو تلك حول ضرورة إيجاد حل سلمي للحرب في اليمن مؤشرا على اهتمام دول العالم بإنهاء الأزمة في شقيها العسكري والإنساني من جهة، وعلى ضرورة التوصل إلى نهايات ما تعيد حدودا دنيا من الاستقرار لبلد يمتلك موقعا جيو استراتيجيا يؤثر مباشرة على مسائل الملاحة والتجارة وأمن منافذ حيوية دولية تهم الغرب كما الشرق.
غير أن الاكتفاء بما هو إنشائي دون أن يقدم هذا العالم حلولا ناجعة لأمن اليمن كما أمن دول الخليج المجاورة، قد يعكس عقما دوليا أو عدم جهوزية لاجتراح رؤى توقف تلك الحرب وتزيل مبرراتها. وفي ما صدر في لندن وواشنطن بمناسبة زيارة ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان حول أمر اليمن تبرز الحاجة لوقف الآلة العسكرية دون أن تفصح الكلمات عن الكيفية التي يمكن أن تنجح في ذلك.
والواضح أن العواصم الغربية تتفهم الأسباب التي قادت التحالف العربي لشن هذه الحرب منذ ثلاث سنوات. وواضح أيضا أن تلك العواصم تعي أن هذا التحالف ربما تأخر في بدايات الصراع عن التدخل الذي كان مطلوبا بطريقة ما ووفق تكتيكات ما صونا للمبادرة الخليجية التي رسمت خـارطة طريق لإنهاء الأزمـة.
وقد يقال في هذا الصدد إن ذلك التأخر هو ما أدى إلى نجاح ميليشيات الحوثيين في الزحف من صعدة في الشمال واحتلال صنعاء ومدن اليمن في الطريق إلى الجنوب بالتحالف مع القوات التابعة للرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
لم يكن الصراع اليمني يتحرك منذ تفجّر بذوره الأولى وفق آليات داخلية لطالما خبرها اليمنيون سابقا وعرفوا دهاليزها، بل إن في خطاب الحوثيين السياسي والعقائدي المعلن منذ ما قبل أزمة عام 2011 مضمونا إيرانيا لم يخف يوما عداءه لدول الخليج ولم يوار خططه لـ“مواصلة الثورة لاستعادة الحرمين الشريفين”.
وبغض النظر عن تقييم “عاصفة الحزم” وظروفها، فإن التحالف العربي بقيادة السعودية تصدى لأخطار حقيقية استراتيجية تتهدد أمن الخليج بحيث أن الخيار العسكري كان وليد نفاد الخيارات الأخرى. سعت الرياض في بادئ الأمر إلى توفير آليات حوار داخلي عام 2013 لإنتاج تسوية محلية.
خرجت عن مؤتمر الحوار الشهير مخرجات حلّ تمت الإطاحة بها بوسائل النار التي كان لا بد من الرد عليها بوسائل النار. وحتى حين انبسطت طاولة مفاوضات علنية وخلفية تارة في الكويت وتارة في مسقط وتارة في عواصم أخرى، كان واضحا أن قرار الحوثيين ليس يمنيا، وأن سيـاسة اللاحل هي استراتيجية مطلـوبة إيرانيا على نحو لا يسقط ورقة اليمن الذي باتت عاصمته من بين العواصم التي تتباهى منابر طهران بالإعلان عن أنها ساقطـة داخل “إمبراطورية عـاصمتها بغداد”.
بات استخدام إيران للحوثيين استراتيجية معتمدة في إطـار حرب بالوكالة تشنها طهران ضد الرياض وحلفائها
يتحدث الجميع عن الحل السلمي. الرياض نفسها، ومنذ إطلاق “عاصفة الحزم”، أعلنت أن هدف الحرب هو العودة إلى طاولة المفاوضات، أي إلى الآلية الوحيدة لإنتاج تسوية سلمية للمعضلة المعقدة. تحركت لندن مؤخرا، جال وزير خارجيتها بوريس جونسون على السعودية وعمان مستطلعا آفاق ومخارج لحل متوخى. استقال مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد ليحل مكانه البريطاني مارتن غريفيث. وفي تلك الاستقالة وذلك التعيين ما قد يخفي مقاربة مختلفة قد تجد أصداء لها داخل عواصم بدت متحمسة للحل اليمني. تحدث وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس عن الحاجة إلى ذلك الحل حين التقى ولي العهد السعودي، وكانت تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، سبقت الأميركيين في ترديد ذلك حين استقبلت الأمير محمد قبل ذلك في لندن. وبين تلك الأعراض أفصح السفير اليمني في المملكة المتحدة، ياسين سعيد نعمان عن أن الخارجية البريطانية تجري مشاورات مكثفة منذ فترة مع أطراف مختلفة (لم يسمها) لها اهتمام بالشأن اليمني.
على أن ذلك الهمس لا يمكن أن يغطي ضجيج حقيقة المعضلة اليمنية. يدرك من يدعو إلى الحل السلمي الدور الذي تلعبه إيران لمنع ذلك الحل. أجمعت كافة تلك العواصم على اتهام إيران بأنها وراء تزويد الحوثيين بالصواريخ الباليستية التي تستهدف السعودية وقدمت مشروع قرار إلى مجلس الأمن يدين الدور الإيراني ويطالب بوقفه. استخدمت موسكو حق النقض فأجهضت القرار لكنها لم تستطع تغيير ذلك المزاج الجامع ضد طهران.
لا يمكن لهذه الحرب أن تنتهي في اليمن طالما أن إيران هي طرف أساسي فاعل في تلك الحرب. بات الشأن اليمني بندا يوميا في التصريحات الصادرة عن المؤسسات الدبلوماسية والعسكرية والأمنية في إيران، وبات استخدام إيران للحوثيين استراتيجية معتمدة في إطـار حرب بالوكالة تشنها طهران ضد الرياض وحلفائها.
وإذا ما كانت جهود أميركية عسكرية وسياسية تبذل لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، خصوصا في ما يتجمع من قواعد وقوات أميركية-غربية شرق سوريا، فإن مواجهة هذا النفوذ في اليمن أيضا هي المفتاح الأساس للحل كما هي لأي حل في بلدان النفوذ الأخرى، لا سيما في العراق وسوريا ولبنان.
وفق هذا السياق لا تبدو أعراض الحل السلمي لليمن متوفرة في ظل تصاعد التوتر بين واشنطن وحلفائها من جهة وإيران من جهة أخرى، وفي ظل تبدل صقوري داخل الإدارة الأميركية. لا تخرج الحالة اليمنية عن سياق ما ستؤول إليه الأمور في حال قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق الذي أبرمته مجموعة 5+1 حول البرنامج النووي الإيراني عام 2015. باتت مطالب واشنطن والشركاء الأوروبيين تتحدث عن شروط تتعلق ببرنامج إيران للصواريخ الباليستية وتعمل على مواجهة النفوذ الذي تمارسه إيران في بلدان المنطقة.
في ذلك التحول الدولي المتصاعد ما يجعل أمر اليمن في صلب مآلات المواجهة بين الغرب وطهران. على ضوء تلك المواجهة سيتقرر مصير تلك الصواريخ الباليستية التي يتسرب بعضها نحو اليمن لتضرب الرياض ومدنا أخرى، وسيتحدد مستقبل ذلك النفوذ الذي تبسطه إيران داخل اليمن عقائديا وعسكريا وماليا وإعلاميا ودبلوماسيا.
ولا ريب في أن إطلاق الصواريخ الباليستية من شمال اليمن باتجاه الرياض ومناطق سعودية أخرى في الأيام الماضية هو رسالة إيرانية تعبّر عن ضيق مما تحضره العواصم الكبرى لحل أزمة اليمن.
تبلغ طهران من يهمه الأمر، لا سيما في توقيت زيارة ولي العهد السعودي للولايات المتحدة، أنها ما زالت ممسكة بقوة بالورقة اليمنية التي تلوّح وستلوّح بها ضد أي خطط متصاعدة خليجيا وعربيا ودوليا تستهدف “إمبراطورية” طهران في المنطقة. وفيما تنشط نداءات العالم لحل سلمي ينهي حرب اليمن، يصدّر نظام ولي الفقيه المأزوم أعراضا تشي بمقت طهران لثرثرات السلم والتسويات، ذلك أن الجمهورية الإسلامية تقتات منذ قيامها من تقاليد الصدام المستمر لعل في ذلك ما يؤجل انهيار عقائد المرشد التي تنفجر أعراضها داخل مدن إيران وتقيح أورامها صراع أجنحة داخل قلاع السلطة في طهران.