تلعب طهران بذكاء داخل لحظة استراتيجية نادرة.
تتأمل طهران عن كثب تحول الموقف الدولي الجماعي حيال وضع إيران الجيو-استراتيجي في الشرق الأوسط. وتكشف المظاهرات التي اندلعت مؤخراً في أكثر من مئة مدينة داخل البلاد من مشهد إلى إيران، أن نظام الجمهورية الإسلامية لا يستطيع تصليب شرعيته وفق قواعد الحوكمة الداخلية، بما يعني ذاك من عدالة اجتماعية واقتصادية وتشغيلية ومحاربة للفساد، بل وفق قواعد الموقع والنفوذ الذين تملكهما إيران داخل ميادين المنطقة من اليمن إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا.
يتصرف أولي الحكم في طهران على أساس التعامل مع الحراك الشعبي الداخلي، سواء بنسخة عام 2009 أو بنسخة عام 2018، بصفته جلبة بيتية يسهل امتصاصها وكبت مفاعيلها حتى إشعار آخر، طالما أن منابر العقيدة والأمن والعسكر قادرةٌ على مواصلة النفخ في أشرعة المنطقة تحت عناويين وشعارات مواجهة “الاستكبار”. وعليه فإن حركة الجنرال قاسم سليماني وصحبه تمثل اللبّ الحقيقي لهواجس الأمن البقاء التي يسعى نظام الولي الفقيه لتوفيرها وتخصيب أسسها.
وإذا ما كانت طهران تشعر أن لا خطر وجودياً يتهدد حصادها داخل العراق وأن تعدد الفرق داخل الشيعية السياسية العراقية يحرث زرعاً في حقولها، فإنها بالمقابل تدرك أن نفوذها في سوريا يتعرض لضغوط مقلقة تتقاطع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كما روسيا نفسها على توفير وقوده. فإذا ما قيّض لـ “القلاع الإيرانية” في سوريا أن تنهار، فذلك نذير ضمور قادم في نفوذ طهران في العراق ولبنان كما في بقاع أخرى في الشرق الأوسط.
لا تريد إسرائيل نفوذاً إيرانيا في سوريا ولا تريد وجوداً عسكريا أو أمنيا لطهران وميليشياتها في الجنوب السوري على الحدود معها. سعت تل أبيب مع موسكو وواشنطن للسهر على قيام منطقة خفض توتر خالية من أي حضور له روائح إيرانية. بيد أن حسابات الغرف المغلقة لم تتوافق مع حسابات الميادين. فواضح أن إيران تعزز هذا الوجود وترفده بانتشار لقوات حزب الله وبقية جوقة الميليشيات الشقيق. وواضح أن التصاق إيران بالجبهة السورية الإسرائيلية يشبه التصاقها، من خلال حزب الله، بالحدود اللبنانية الإسرائيلية. فليس المطلوب في حسابات طهران إلا أن تصبح إيران رقماً صعباً في حسابات الأمن الإسرائيلي.
ليس لدى الحاكم في طهران أي خطط لتحرير فلسطين. فهذا “فيلق القدس” يجول على الجبهات ولا يطل على أية جبهة ترتبط بالقدس أو تتصل بخطط محتملة عاجلة أو آجلة لتحريرها. وما خطاب طهران في هذا الشأن إلا مضمون أبجدي لطموحات إيران الإقليمية وشكل استهلاكي داخل دوائرها “الممانعة”. غير أن لدى الحاكم في طهران خططا لتوطيد حضور إيران الإقليمي جنبا إلى جنب مع ذلك الروسي والأميركي والتركي الذي يرسم خرائطه داخل الرقعة السورية. وعليه فإن استراتيجية حافة الهاوية التي لطالما كانت سرّ بقاء نظام الجمهورية الإسلامية منذ قيامها، هي نفسها التي تستدرج هذه الأيام مواجهة كبرى مع إسرائيل.
لا تخاطر إيران كثيراً في ما توفّره من استفزازات لجرّ الخصم إلى الصدام. وسواء كان هذا الخصم إسرائيليا أو أميركياً، أو حتى معارضة سورية، فإن طهران تلعب أوراقا خارج حدود إيران، فيما يلعب الخصوم، لاسيما في الحالة الإسرائيلية، داخل حدود الأمن الجغرافي المباشر. فالنيران التي تهددُ بها إيران إسرائيل تنطلق من سوريا ولبنان، والرد عليها سيكون داخل سوريا ولبنان. وفيما أن الخسائر ستكون إسرائيلية مباشرة، وفيما أن الخسائر المقابلة ستكون سورية لبنانية لا تطال من إيران إلى ميليشياتها التابعة، فإن طهران تمتلك هامشاً عريضا للمناورة لا يملكه خصومها مجتمعين، إلا إذا ما تقرر، بناء على تحول استراتيجي جذري، نقل الحرب إلى داخل إيران نفسها.
تلعب طهران بذكاء داخل لحظة استراتيجية نادرة. تحتاج إيران إلى دعم روسي كامل متخلّص من أوهام فلاديمير بوتين في عقد صفقة تاريخية متوخاة مع العالم الغربي. وجدت طهران ذلك في الأسابيع الأخيرة حين قررت واشنطن قلب الطاولة الروسية في سوريا. فقدت موسكو هيمنتها كقوة جبارة وهيبتها أمام العالم أجمع حين أغارت طائرات درون غامضة وقبل ذلك مدفعيات مشبوهة على قاعدتيها الشهيرتين في حميميم وطرطوس. لم تكشف الأيام اللثام عن ذلك الغموض، لكن أجهزة المخابرات في المنطقة تتهامس في ما بينها حول ظلال أيدٍ أميركية تقف وراء تلك الهجمات وهذا الغموض. وحين أسقط صاروخ أرض جو الأسبوع الماضي مقاتلة روسية فوق إدلب، تذكّر كثيرون ما فعلته صواريخ ستينغر الأميركية المحمولة على الكتف بالمقاتلات والمروحيات السوفياتية في أفغانستان قبل عقود. بدا أن موسكو أدركت روائح الطبخ الأميركي ضدها وبدا أن طهران وعت ندرة وأهمية تلك اللحظة.
تبدو حكاية فجر السبت الماضي وليدة كمين نصبه الإيرانيون برعاية روسية كاملة. ظهر أن موسكو تروم بدورها قلب طاولة قديمة نصبتها مع واشنطن عشية غارات طيرانها الأولى في سوريا خريف عام 2015. وظهر أن إرسال درون إيران إلى الداخل الإسرائيلي هو استدراج إيراني تود روسيا أن ترسل من خلاله رسائلها الجديدة. الرسالة الأبرز أن الطائرة المسيّرة خرجت من مطار عسكري سوري بالقرب من تدمر تشرف موسكو على أدق تفاصيل الحراك داخله. كان بإمكان الدرون أن تنطلق من مطارات أو حقول حدودية لكن موسكو أرادت للكعكة الإيرانية المسمومة أن تخرج من أفرانها. والرسالة الثانية أن موسكو علّقت تفاهماتها السابقة مع تل أبيب، وبالتالي علّقت السهر على رعاية التفوّق الجوي الإسرائيلي بمنع أي رادع أرضي. بدا أن روسيا ترد على من سمح لصاروخ أرض جو بإسقاط مقاتلتها بالسماح لسلاح صنع في روسيا بإسقاط طائرة أميركية الصنع تمتلكها إسرائيل.
داخل ذلك التقاذف الخبيث بين روسيا والولايات المتحدة مررت إيران أجندتها. لم تعترف طهران بإرسالها الطائرة المسيرة، وكررت نغمة وجود مستشارين لا قوات لها في سوريا وأعادت الأمر إلى مواجهة ثنائية تجري بين مقاتلات معتدية ودفاعات لها الحق الطبيعي في رد الاعتداء. ناورت إيران داخل الحقول الروسية وتحت سقف موسكو في سعي للاعتراف بها شريك نزاع من أجل الاعتراف بها لاحقا شريكا في فك النزاع.
وربما ينبغي الاعتراف أن هذه اللحظة القصوى لتلاقح المصالح الإيرانية الروسي قد أربكت العالم. وما تدركه إيران أيضاً أن تلك اللحظة قصيرة العيش وهي عابرة في مسار العلاقات المّعقدة بين روسيا والعالم. تعرف طهران أن هدف فلاديمير بوتين بالنهاية هو استرجاع موقع كبير لبلاده داخل المشهد الدولي الراهن، وأن مصالح إيران ومعارك بقاء نظامها ليست داخل أجندات زعيم الكرملين. فإذا ما عدّلت واشنطن من خياراتها واعترفت لموسكو بما تجهد منذ توافق بوتين اوباما حول سوريا، فإن إيران تصبح تفصيلاً لا تلتفت له موسكو. ألم تقوم قوات التحالف بقتل أكثر من مئة مقاتل قيل أنهم جزء من ميليشيات إيرانية اقتربت من مواقع الأكراد شرق الفرات؟
قيل أيضا أن موسكو قد أُبلغت مسبقا بغارات قوات التحالف فلم تكترث لما ستفعله نيرانهم بالمهاجمين.
ميدل ايست أونلاين