روسيا تظهر مرونة وتهيبا من العاصفة الجديدة التي تهب من الغرب، ستعمل موسكو على المضي بسوتشي مطمئنة إلى فشل آخر سيتحقق في فيينا. في موسكو من يؤمن أنه مهما أمطرت الغيوم فوق سوريا، فإن خراجها عنده.
سيذهب المؤتمرون إلى فيينا و/أو سوتشي دون أي أحلام بالتوصّل إلى صيغة ما لولوج العملية السياسية في سوريا. يظهر أن ما بين المدينتين سباقا بين الروحية الروسية لأستانة، والروحية الأممية الأميركية الهوى لجنيف. وبين هذه وتلك تتضح معالم المنافسة المتقدمة بين موسكو وواشنطن على تقرير مصير سوريا المستقبل.
ورغم أن إجماعا يسود حول عدم قدرة المؤتمريْن على إحداث اختراق داخل جدار المأساة السورية، ورغم قناعة كافة الفرقاء المحليين والإقليميين بأن المشهد غير ناضج للخروج بتسوية، إلا أن كافة عواصم العالم المعنية بالشأن السوري معنية بالانخراط الكامل داخل السياقين، ذلك أن أي اعتكاف أو تدلل أو إهمال داخل ملف سوريا بات يهدد خطط الشرق كما الغرب في الإدلاء بدلو داخل ورشة رسم الخرائط الجغرافية والاقتصادية والسياسية في كامل المنطقة.
وقد لا يغيب على المراقب تراجع اللهجة الروسية مقارنة بتلك التي كان يستخدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرجي لافروف في مقاربة الشأن السوري. بدا واضحا أن السياسة الأميركية الجديدة في سوريا، والتي أعلنها وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون وراح يحجّ بها صوب أوروبا قبل التداول بها مع موسكـو، وضعت حـدا، ولو صوريا، للاندفاعة الروسية المطلقة منذ بدء العمليات العسكرية في سوريا في سبتمبر 2015. تحوّل المزاج الروسي باتجاه براغماتية تكاد تكون اصطناعية لا مصداقية لها وكأنها مناورة تنتظر تغير الظروف وتوفر معطيات أفضل.
تتحدث المعلومات أن استقبال لافروف لوفد الهيئة العليا للمفاوضات التي تمثل المعارضة السورية كان ودّيا شابه حرص من الوزير الروسي على الإصغاء الهادئ على مدى خمس ساعات لوجهة نظر المعارضة، ومناقشة حججها وتقصّد إظهار تقدير روسيا لدور تلك المعارضة في إنجاح أي تسوية مقبلة في سوريا.
قد يكون أمر هذه اللقاءات بين موسكو والمعارضة شكليا لأغراض تقديم روسيا بصفتها وسيطا ناجعا مقبولا من كافة الأطراف، لكن المفارقة أن الحرص والودّ والاتفاق على تنظيم الاختلاف والحفاظ على التواصل، تأتي من الوزير الذي سبق أن هدد نفس هذه المعارضة بالتبخر والاندثار إذا لم تقبل تبدل موازين القوى، وإذا لم تنخرط بالمقاربة الروسية للحلّ في سوريا.
تريد موسكو إنجاح “فعالية” سوتشي. يهم الحاكم في روسيا أن يقدم للعالم طبقا إعلاميا يجمع داخل جدرانه حشدا من سوريين حتى لو كان في فلسفة العدد ما يقوّض أي عملية محترفة لإنتاج تسوية ذات مصداقية في حل النزاعات في العالم. وحتى لو لم تحضر المعارضة السورية التي مازالت تفضل المرور في فيينا قبل تقرير مزاج رسمي بشأن المشاركة في سوتشي، فإن موسكو انتزعت من نصر الحريري ووفده إقرارا بمفصلية المقاربة الروسية في تحديد شكل العملية السياسية المقبلة والتي على أساسها ستنطلق عجلة التسوية السورية.
تودّ روسيا الحفاظ على ما حققته في سوريا خلال السنوات الأخيرة. سعت موسكو لرفد قُواها بحلف يجمعها مع تركيا وإيران. لم يكن من أهداف المناورة الروسية تحسين حصص أنقرة وطهران، ولا يهم الحاكم في روسيا ما تطمح إليه العاصمتان في سوريا. فـإذا ما بدا أن مصـالح دول عملية أستانة صارت متنافرة مبعثرة الأجندات، فإن موسكو عمدت إلى تخفيض مستوى طموحاتها إلى ما يضمن لها الحصة الوازنة دائما داخل الكعكة السورية المغرية.
لم تصطدم روسيا مع الأجندة الإيرانية الواضحة في سوريا. غضت الطرف عن أنشطة إسرائيل العسكرية في التعامل مع الأهداف الإيرانية، ولم تعترض كثيرا على محاولة طهران دفع دمشق للتمرد على تدابير مناطق خفض التوتر. ينظر بوتين بعيدا في مقاربته السورية وفي خلفية رؤاه الإستراتيجية خارطة كبرى تحسب موقع بلاده في العالم من خلال التفصيل السوري. لا يرتبط مصير نظام سوريا بمصير النظام الروسي وزعيمه، فيما أن مصير هذا النظام مرتبط بشكل مباشر بحاضر النظام في إيران. وقد تحتمل طهران مظاهرات تندلع في مدن البلاد لكنها لن تحتمل تطورا مشؤوما يقوض من نفوذها السوري.
بنفس الصبر والأناة اللذين يقارب بهما بوتين دور إيران داخل يوميات الحرب في سوريا أطل بوتين على التطور التركي الأخير في شمال البلاد. وفّرت موسكو الغطاء السياسي واللوجستي الذي توده أنقرة لإطلاق “غصن الزيتون” ضد “قوات حماية الشعب” الكردية في عفرين. عرف الأكراد حقيقة ذلك فراحوا يصبّون جام غضبهم ضد موسكو التي “طعنتهم في الظهر والتي لولاها لما تجرأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على المغامرة بدفع قواته صوب عفرين”. يغضب الأكراد من روسيا ولا يغضبون، للمفارقة، من الولايات المتحدة الحليف الكبير لهم عن تلك المواقف الباردة التي ناورت ما بين “القلق” و“التحفظ” بما يكشف عن ضوء أخضر أميركي واضح أتاح لأنقرة عدم التردد في ما تريثت به كثيرا قبل الإقدام عليه.
يتحدث ريكس تيلرسون عن تفهم للهواجس التركية، ويتطرق إلى حق أنقرة في الدفاع عن حدود البلاد وردّ الأخطار عنها. يؤيده بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني في ذلك على نحو يفضح طبيعة المداولات العسكرية والدبلوماسية التي نشطت في الساعات الأخيرة قبل إطلاق الحملة التركية، وعن زيف التصريحات النارية التي أطلقها الأتراك ضد موسكو وواشنطن. تترك موسكو لأردوغان اللعب داخل حيز محسوب لا يؤثر على فوقية النفوذ الروسي في سوريا. تدّعي واشنطن أن عفرين ليست من ضمن خرائط عملياتها بما يؤكد لكافة أطراف الحرب في سوريا، بما ذلك تركيا وروسيا، حقيقة الخرائط التي تعتبر أنها باتت تشكل الأمر الواقع العملياتي الأميركي الذي سيوفّر أرضية لما أعلنه تيلرسون عن بقاء للقوات الأميركية في هذا البلد.
يسهل للمراقب أن يتأمل كمّ التحولات التفصيلية الجارية في إدلب وعفرين وشرق الفرات والغوطة بالقرب من دمشق. ويسهل لنفس المراقب أن يستنتج أن تلك التحولات لا تغير كثيرا من المشهد الكبير، وأن مصير سوريا أضحى يرتبط بأجندات أعقد من سقوط عفرين أو مقاومة الغوطة ودخول وانسحاب قوات النظام السوري إلى/ ومن مطار أبوالظهور. والواضح أن تلك الجراحات لا تبدل كثيرا من خطوط الحرب بل “تصوّب” ما هو ضبابي في حدود دوائر النفوذ الميداني والتي قد يتم التعايش في ما بينها طويلا قبل أن يلوح أي توافق يفضي إلى تبيان أعراض المشهد السوري المقبل.
ستستمع روسيا إلى ما يحمله تيلرسون في جعبته والذي جرى محضه بـ”بركة” أوروبية محتملة. يعرف لافروف الأجواء الدولية الجديدة. استنتج رجل الدبلوماسية الروسية البعض من هذه الأجواء في الاستماع إلى نصر الحريري وصحبه الذين زاروا نيويورك والتقوا، إضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى قبل أن يكملوا جولتهم في عواصم أوروبية. استنتج لافروف لهجة الحريري وصحبه واستنتج منها ما سمعه هذا الوفد في العالم.
روسيا تظهر مرونة وتهيبا من العاصفة الجديدة التي تهبّ من الغرب. ستعمل موسكو على المضي بسوتشي مطمئنة إلى فشل آخر سيتحقق في فيينا. وفي موسكو، وفي الكرملين بالذات، من يؤمن أنه مهما أمطرت الغيوم التي تكثّفت وتنوّعت فوق سوريا، فإن خراجها عنده.