الملك عبدالله الثاني لاحظ أنه لم يعد بالإمكان الركون بشكل كامل إلى السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، قرأ الملك الأردني ذلك جيدا في زياراته إلى واشنطن واستنتج أن بلاده تحتاج إلى رشاقة في علاقاتها مع العالم.
أفرج الأردن منذ الساعات التي تلت إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لإسرائيل، عن حيوية لافتة بقيادة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، في التواصل مع عواصم القرار، دفاعاً عن أمر هو من صلب وظيفة العائلة الهاشمية من حيث إشرافها التاريخي على الأماكن المقدسة في المدينة.
تولّى ملك الأردن والرئيس الفلسطيني محمود عباس بشكل مستقل التعبير عن مواقف صلبة رافضة للقرار الأميركي. جاء ذلك على نحو لافت ومفاجئ يعبّر عن الصدمة التي أحدثتها واشنطن لدى الأردن، كما لدى السلطة الفلسطينية في موسم الكلام المفرط عن “صفقة قرن” مفترضة يعدّها البيت الأبيض لحل أزمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. بدا أن الزعيمين حُشرا في زاوية وفقدا خيارات بديلة، على النحو الذي محض حراكهما براديكالية لم تكن جزءا من المدارس الدبلوماسية في عمّان كما في رام الله.
بيد أن حركة الملك عبدالله الثاني تواكبت مع جدل أردني داخلي أوحى بأن الأردن على مفترق طريق، وأنه يسعى إلى التموضع وفق معطيات جيوستراتيجية مستجدة. تحدثت صالونات عمّان عن خلاف يطّرد بين الأردن والسعودية. لم يتسرب عن الخطاب الرسمي أي مؤشر بهذا الاتجاه، لا سيما أن العاهل الأردني كان زار الرياض مؤخراً، عشية قمة المؤتمر الإسلامي الطارئة في اسطنبول.
ولئن لم يصدر عن الزعيمين، السعودي والأردني، ما يمكن أن يكون دليلا على برودة في علاقات عمّان والرياض، لكن أيضا لم يصدر ما ينفي ذلك ويلبس هذه العلاقات الحرارة المطلوبة. كان للملك عبدالله الثاني زيارة إلى تركيا ولقاء بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد ساعات على إعلان ترامب قراره. أثار أمر التواصل الأردني التركي همهمات كثيرة في عمّان تتحدث عن الخيارات الجديدة للعاهل الأردني، وخلف تلك الهمهمات أسئلة عن سيناريوهات تبعد الأردن عن حلفائه الخليجيين التقليديين.
واللافت أن صالونات عمّان السياسية نشطت على نحو لافت، بدا مقصودا، وتركت للحناجر التعبير عمّا لا يمكن للخطاب الرسمي الأردني التعبير عنه. تحدث رئيس الديـوان الأسبق عدنان أبوعودة عن أن الأردن على خط النار الأول وأن التـوطين قـادم إلى بلاده. بالمقـابل أعلن وزيـر الخارجية الأردني الأسبق مروان معشر أن الأردن “يكاد أن يكون دولة دون حلفاء، بعد أن تخلى عنها حلفاؤها التقليديين، وبدأوا بالانحسار”.
الدولة العميقة في الأردن متخوّفة من تداعيات قرار ترامب بالنسبة للقدس على وضع الأردن ودوره ووظيفته داخل المشهد الإقليمي العام. بات خلاف الأردن مع حلفائه في الخليج حقيقيا يُعبَّر عنه بصفته “تخلّ” عن المملكة. غير أن السؤال أيضا يكمن في الأسباب التي جعلت الأردن دون حلفاء، وعن ماهية الأخطاء التي ارتكبتها الدبلوماسية الأردنية لجعل البلد “دون حلفاء”.
يتجاوز الجدل الأردني مقاييسه النظرية ويأخذ واجهات عملية تحضر لاستدارات جديدة قد تكون مفاجئة. يلتقي رئيس مجلس النواب الأردني عاطف الطراونة بالسفير الإيراني ليعيدا سوياً اكتشاف العلاقات الطيبة بين عمّان وطهران. ويلتقي الطراونة القائم بالأعمال السوري ليطلقا خطابا وديا طموحا وواعدا بين البلدين.
الأردن ذاهب إلى توسيع مروحة تحالفاته دون أن يشكّل الأمر قطيعة مع الحلفاء التقليديين. هكذا يصف الطراونة الاستراتيجية الأردنية الجديدة. البعض يعتبر أن أمر توسيع التحالفات هو حق للأردن، وأن للبلد الحق في أن ينسج أي تحالفات مع العالم، فلماذا يبدو ما هو حق طبيعي وكأنه إجراء كيدي يدفع الأردن نحو اصطفافات تخرجه من موقعه الأصيل داخل خرائط المنطقة والعالم؟
في يناير الماضي، أي قبل عام فقط، جرى تنظيم مقابلة صحافية عاجلة مع قناة بي بي سي عربي مع رئيس هيئة الأركان المشتركة في القوات المسلحة الأردنية الفريق الركن محمود فريحات. بدا واضحاً أن المقابلة مفتعلة تريد عمّان من خلالها كشف مواقف جديدة. قال فريحات إن بلاده لم تعمل يوما ضد النظام السوري، وأن دعمها لبعض القوات العشائرية في جنوب سوريا كان هدفه مواجهة تنظيم داعش. أرسلت عمّان رسالتها الأولى.
غير أن الرجل، وعلى نحو لافت، حذّر من ممر بري تعمل إيران على شقه باتجاه شمال العراق وشمال سوريا باتجاه البحر المتوسط. استغرب المراقبون حينها توجس الأردن من ممر إيراني يبعد عن حدوده ولا يطل مباشرة على أراضيه. أرسلت عمّان رسالتها الثانية التي لا تبتعد في روحيتها عن التحذير الشهير الذي أفصح عنه الملك عبدالله الثاني عام 2004 عن قيام هلال شيعي في المنطقة تقوده طهران.
الأردن ليس بصدد نقل تحالفاته من معسكر إلى آخر، ليس فقط بسبب هويته السياسية التاريخية داخل المعسكر الغربي، وليس فقط بسبب ذلك التواصل الموضوعي مع بقية الملكيات العربية، بل أيضا بسبب أن هذه التحالفات البديلة
قيل في عمّان هذه الأيـام إن لإيران علاقات تجارية مع بعض دول الخليج رغم الخلاف الخليجي الإيراني. وقيل أيضا إن تواصل حركة حماس مع إيران مؤخرا يجري دون ممانعة من القاهرة. وقيل أيضا إن تواصل عبدالله الثاني ورجب طيب أردوغان أوحى بضرورة تموضع جديد للأردن لا يبعده عن طهران. قيل في عمّان أيضا إن ما هو عادي ومتاح في علاقة هذه العاصمة أو تلك مع طهران لا يجب أن يكون محرّماً على عمّان.
والحقيقة أن الأردن ليس بصدد نقل تحالفاته من معسكر إلى آخر، ليس فقط بسبب هويته السياسية التاريخية داخل المعسكر الغربي، وليس فقط بسبب ذلك التواصل الموضوعي مع بقية الملكيات العربية، بل أيضا بسبب أن هذه التحالفات البديلة هي افتراضية لم تتشكل وكثيراً ما تعتبر ظرفية لا أفق لها. أمر كهذا ينطبق على العلاقة مع تركيا التي ترتجل سياسة خارجية على وقع توتر علاقاتها مع الغرب. وينطبق أيضا على العلاقة مع إيران التي تعاني عزلة دولية لا تتيح البناء على تحالف معها وفق قواعد وشروط لا يمكن للأردن إلا أن يأخذها بعين الاعتبار بحكم موقعه داخل المشهدين الإقليمي والدولي.
يتأمل الأردن بقلق التحولات الكبرى الجارية في العراق وسوريا وفلسطين. وتسعى عمّان لتكون شريكا كاملا داخل أي خطط تدبر لتحديد المآلات الأخيرة للدول الثلاث. بدا أن انخراط واشنطن وموسكو مباشرة داخل الميادين العراقية والسورية يستغني عن الدور السابق الذي كان الأردن يلعبه في هذين البلدين. تعتبر عمّان أن مسألة القدس مرتبطة بالتسوية النهائية للمسألة الفلسطينية، وأن موقع البلد وعلاقته التاريخية مع فلسطين، كما موقع الفلسطينيين ودورهم داخل النسيج الأردني يجعل من أي مزاج يطال فلسطين، كما الحال مع قرار ترامب الأخير بشأن القدس، أمراً وجوديا بالنسبة للأردن على نحو الذي يجعل الشارع والنخب والقصر الملكي يعزفون على نفس الوتر.
تقدّم العاهل الأردني كثيرا في علاقاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. زار عبدالله الثاني موسكو عدة مرات، وبدا أن الملك يدرك الدور الروسي الجديد في الشرق الأوسط. لاحظ عبدالله الثاني جيدا أنه لم يعد بالإمكان الركون بشكل كامل إلى السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. قرأ الملك الأردني ذلك جيدا في زياراته إلى واشنطن، واستنتج أن بلاده تحتاج إلى رشاقة في علاقاتها مع العالم. في عمّان من يقول إن البلد لا يملك الابتعاد عن الولايات المتحدة لكنه يملك نسج علاقات جدية وحقيقية مع خصوم الولايات المتحدة. البعض يتحدث عن التحاق بالمحور الروسي الإيراني التركي، وبعض آخر يتساءل: هل فعلا هناك محور روسي إيراني تركي؟ أوليس القاسم المشترك لهذا الحلف المفترض هو موقف واشنطن؟ وماذا يبقى من هذا الحلف إذا ما تعاملت واشنطن بشكل آخر مع موسكو أو طهران أو أنقرة؟
نقلا عن العرب