ليس صحيحا أن المجتمع الذي ارتضى إرسال بناته وأبنائه لتوسّل العلم في واشنطن وباريس ولندن وبرلين غير جاهز للتحوّل نحو مجتمع حديث عصري يعترف بمكوناته إناثا قبل ذكور.
أيا كان الموقف من المملكة العربية السعودية فلا يمكن إلا التسليم بما لذلك البلد من تأثير مباشر وفاعل على الدائرتين العربية والإسلامية. ليس بالأمر مديح أو ثناء، بل توصيف قد يمقته الخصوم لواقع حال لا يمكن التشكيك به منذ قيام الدولة السعودية الحديثة في بدايات القرن الماضي.
والحديث عن تأثير السعودية في محيطها الكبير يخلط ما هو إيجابي بما هو سلبي. فإطلالة المملكة على حدائقها الخلفية الكبرى غيّرت من سلوكيات العامة كما من تموضع أنظمة الحكم خلفها وتجاهها. ملكت السعودية ثروات منذ ما قبل الطفرة النفطية جعلتها فاعلة في تصدير القيم السعودية ونشرها والدفع في شيوعها. وبالتالي فإن سقوط الاعتدال التقليدي للدين منذ واقعة احتلال جهيمان العتيبي للحرم المكي عام 1979 وبزوغ ما أطلق عليه جزافا اسم “الصحوة”، أباح تنامي مفاهيم وازدهار سلوكيات تولت إمكانات السعودية الهائلة تصديرها بسهولة نحو أرجاء بعيدة وقريبة.
قد يقول قائل إن العودة إلى الانغلاق والمحافظة الدينية كانت آنذاك حاجة سياسية للردّ على ما كشفه حدث جهيمان من خلل مجتمعي كامن، وللردّ على قيام الجمهورية الإسلامية في إيران في نفس العام والتي بدت أنها تتقدم لتنافس المملكة على شرعية تمثيل الإسلام والمسلمين. بيد أن تأملا آخر للتاريخ يفضي إلى أن “الصحوة” الطارئة لم تكن تطوّرا تاريخيا آليا، بل جاءت وليدة قرار سياسي اتّخذه أهل الحكم لوقف خيارات مجتمعية وانتهاج خيارات بديلة. بمعنى آخر، فإن السياسة، وليس الدين، كانت وراء سقوط الاعتدال الديني ودخول السعودية في هذا الصدد حالة استثناء لم تعرفها دولة إسلامية أخرى.
حين يتم تقديم أبجديات تاريخ نشوء الدولة السعودية بأنها نتاج شراكة بين مدرسة عبدالوهاب للدين ومدرسة آل سعود للحكم، ففي ذلك حقّ يروم مواراة حقيقة أخرى. لم تكن تلك الشراكة إلا خدمة للدولة واستقرارها واستمرارها، ولم تكن يوما خضوعا لوجهة نظر معينة في مقاربة الدين.
كان أصحاب الشراكة الدينية يتوسّلون من تلك الشراكة إقامة دولة إسلامية لا حدود لها. وكان أصحاب الشراكة السياسية يسعون من تلك الشراكة إلى تثبيت ألف باء الدولة وأصولها. وحين أرادت قبائل الإخوان (أو إخوان من طاع الله) في عشرينات القرن الماضي استمرار الزحف باتجاه العراق والكويت تصدّت لهم دولة الملك عبدالعزيز وأوقفت زحفهم صونا لحدود يقبلها العالم للسعودية بلدا وحكما.
فهمت المؤسسة الدينية أصول الشراكة منذ أعراضها الأولى وأذعنت لقواعدها. كان لأصحاب الدين أن يدلوا بدلوهم كما يشاؤون وكان لأصحاب الحكم في النهاية، لأنهم أصحاب الحكم، أن يدفعوا بأي سجال نحو الخواتيم المراعية لثوابت الاستقرار والاستمرار. لم يقرر تعليم البنات إلا قرار الحاكم. ولم تدخل الحداثة بمعنييها التقني والقيمي إلى البلاد إلا بقرار سياسي. فإما يفهم أهل الدين مزاج الحاكم فيتبعونه، وإما فإن لأهل الحكم مسؤوليات أمام عموم السعوديين تستدعي بالمبضع أحيانا إجراء الجراحات اللازمة.
ليس على المؤسسة الدينية أن تعطّل خيارات الحكم في السعودية. جرى جدل كثير قبل أن يدخل التلفاز وتقنيات التواصل والإنتاج والتوزيع أرض المملكة. ومن يعرف التاريخ التفصيلي لمسار الدولة السعودية يعرف مدى الصبر والأناة والحكمة التي قارب بها الحاكم التحفظيْن المجتمعي والديني لنقل البلاد إلى سكك العصر. ومن يعرف كواليس القرار يدرك أن الحاكم في السعودية كان دائما سيّد القرار وأن مؤسسة الدين كانت دوما تعمل تحت سقف الحكم لا تحيد عن رؤاه.
ربما يجب الاعتراف في عصر تنتقل فيه السعودية من طور إلى طور أن الحاكم لم يكن متحمسا في العقود الأخيرة لدعوات التحديث المجتمعي والسياسي التي كانت تخرج عن منابر داخلية سعودية. كان الحاكم يراقب، وربما يرعى، منابر سعودية مضادة تنطلق من مدارس الدين لشنّ هجمات على أي تحديث مزعوم أو مأمول. كان بإمكان الحاكم أن يتدخل، لكنه آثر التموضع في الوسط على نحو لا يمكن إلا أن يكون ميلا نحو تأييد المحافظة الدينية والمجتمعية مقابل ما هو إصلاحي يروم الانفتاح.
كان لا بد من وضع حد لخطاب ديني ملتبس يداري التطرف وأحيانا يبرر له. وفي القطع مع تاريخ (الصحوة) تخرج المملكة من (الاستثناء) وتعود، على ما قال الأمير محمد بن سلمان، إلى تاريخها وواقعها وثقافتها الحقيقية كراعية للإسلام المعتدل
في خيارات الحاكم في السابق كما في خياراته حاليا هدف واحد واضح: مصلحة السعودية. كان نظام الرياض يرى في الأنظمة الثورية اليسارية الجمهورية التي نبتت في المنطقة غداة الاستقلالات خطرا يتهدد النظام الملكي عندها. تولّد نفس التوجس لدى كافة الأنظمة الملكية في المنطقة، سواء في الخليح أو المغرب والأردن. وإذا ما كانت للمتوجسين مقاربات متعددة، فإن السعودية ارتأت التوجه نحو العالم الإسلامي برمته كفضاء مقابل للفضاءات القومية العروبية اليسارية التي بدأت تُطل برأسها على المنطقة.
وحين اقترب المارد الشيوعي من تخوم المنطقة في أفغانستان كان لسلاح الدين الدور الأبرز لـ“رد إمبراطورية الإلحاد” عنها. وقد يجوز ألا تُلام السعودية على تحصنها المنطقي بالدين، وهي الراعية للحرمين الشريفين، حين تأمّل أنظمة جمهورية، في مصر والجزائر والعراق وليبيا… إلخ، استدعت الدين درعا يقيها شرور معارضة ترفع بيارق العلمانية والاشتراكية واليسار.
لم يعد مقبولا هذه الأيام أن يبقى الدين سلاحا يُستخدم في منهج السياسات الخارجية الدولية. استكان الغرب للدين في معرض مواجهته للإمبراطوريات الحمراء إبان الحرب الباردة. حتى أن منابر الإسلام السياسي كانت تجد لها دائما ملاذات في كبرى العواصم الغربية كونها تتسق في خطابها مع الهدف الاستراتيجي الغربي في التصدي لمنابع العقائد الثورية والشيوعية في العالم.
كان ذلك قبل أن يضرب تنظيم أسامة بن لادن في قلب الولايات المتحدة وقبل أن ينتشر الإرهاب المسمى “إسلامي”، بنسخه المتعددة، ليضرب مدن العالم في أقصى الشرق كما في أقصى الغرب. وما هو غير مقبول في العالم أجمع لم يعد مقبولا في عهد سليمان بن عبدالعزيز وولي عهده في السعودية.
يضع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان حدا لانحدار أحال السعودية حالة شاذة في العصر الحديث. أنهت فلسفة الحكم الراهنة ذلك التناقض البنيوي بين مملكة تصدر مبتعثيها إلى كبرى جامعات العالم وتصدر غلاتها إلى بقاع التطرف. كان لا بد من وضع حدّ لخطاب ديني ملتبس يداري التطرف ويتفهمه وأحيانا يبرر له. وفي القطع مع تاريخ “الصحوة” تخرج المملكة من “الاستثناء” وتعود، على ما قال الأمير محمد بن سلمان، إلى تاريخها وواقعها وثقافتها الحقيقية كراعية للإسلام المعتدل السمح.
يجوز للسعوديين الاستغراق في الجدل حول واقعهم. ويجوز تفهم القلق الذي يعتري المجتمع الذي اعتاد على سكينة في تقاليده تُشبه الجماد. ويجوز أن يواكب الحدث مظاهر تحفّظ وتبرّم واعتراض، فذلك أن صحوة الحكم هذه الأيام تطيح بـ“صحوة” أدخلت المملكة في حقبة تخلّفت فيها البلاد عن اللحاق بركب العصر. وما الحراك السعودي اللافت هذه الأيام إلا مشهد تاريخي آخر من تفوّق الحكم على أهل الدين وريادة الحاكم في فرض ما هو متقدم عن الوعي المجتمعي العام.
ليس صحيحا أن المجتمع السعودي ليس مستعدا للتغيير. كثيرا ما قال حكام السعودية ذلك وكثيرا ما ردد السعوديون أنفسهم، بمن فيهم دعاة الإصلاح، ذلك. كان في الأمر انتقاص من شأن هذا المجتمع مقارنة بالمجتمعات الخليحية، حتى لا نقول العربية وما فوق العربية، واستكانة إلى نمطية بليدة كانت ترى أن قيادة المرأة للسيارة في البلاد، مثلا، أمر لا يقبله مجتمع المملكة فيما يقبله مجتمع اليمن والكويت وبقية دول الخليج.
ليس صحيحا أن المجتمع الذي ارتضى إرسال بناته وأبنائه لتوسّل العلم في واشنطن وباريس ولندن وبرلين غير جاهز للتحوّل نحو مجتمع حديث عصري يعترف بمكوناته إناثا قبل ذكور.
وكما صدّرت السعودية في السابق قيم “الصحوة”، فإن السعودية في تطورها جاهزة لتصدير قيمها الجديدة، التسامح والوسطية والاعتدال، وهذا تماما ما سوف يغير وجه المنطقة. ليس في الأمر أي مبالغة، فالسعودية تتغير، وفي تغيّرها ما يُربك الحلفاء ويقلق الخصوم.
صحافي وكاتب سياسي لبناني
محمد قواص