كان بودي أن أتطرق اليوم إلى استفتاء إقليم كردستان العراق وتداعياته المحتملة، فهو مهما قيل معه أو عليه تطوّر له ما بعده. إلا أن أحكام المحكمة العسكرية في لبنان على الشيخ أحمد الأسير ورفاقه بعد إدانتهم «بمواجهة الجيش» تستوجب وقفة وتأملاً عميقاً.
بدايةً، يهمني أن أقول إنني لست من مؤيدي الشيخ الأسير، الذي حكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام، ولا أعتقد أنه يمثّل بصورة من الصور المسلمين السنّة لا في لبنان ولا خارجه. بل أذهب أبعد من ذلك لأقول إنه لا مصلحة للمسلمين السنةّ بأن يمثلهم الشيخ الأسير أو أن تُعَمّم تجربته عليهم.
وبالضبط لأنني أعتبر ظاهرة الشيخ الأسير ظاهرة مذهبية متشددة، يقلقني جداً أن يغدو حكم قضائي يصدر بحقه وحق تياره المذهبي والسياسي، دون سواه، أداةً لتجنيد المئات – وربما الألوف – لقضيته بعد جعله شهيداً مظلوماً. واللبنانيون، سواءً اعترفوا أم فضّلوا الإنكار الذي أجادوه لعقود، يدركون جيداً الظروف التي صدر فيها الحكم.
يدركون جيداً الاختلال الفظيع في ميزان القوى على الأرض. يدركون جيداً موقع «السلاح الشرعي» مقارنة بـ«السلاح غير الشرعي» في البلد. يدركون جيداً مَن يحكم ومَن يأمر ومَن ينهى… مَن يريد «توجيه الناس وتعليمهم» كي ينسجموا مع شروطه للوطن والمواطنة وشهاداته في الوطنية والأخلاق، وتعاليمه للحياة الأسرية والأصول التربوية… مَن يفلت من العدالة بقوة سلاحه ونفوذه… ومَن تحصر به تهم التطرف و«الإرهاب» و«التكفير» و«الدعشنة»، وطبعاً «العمالة لإسرائيل وأميركا»!
كل هذه الأمور يدركها اللبنانيون، وما كان ينقصها سوى شريط الفيديو اللافت الذي تداوله اللبنانيون على وسائل التواصل الاجتماعي لمحاضرة بليغة ألقاها الشيخ نعيم قاسم تناول فيها رؤيته الصريحة لهوية لبنان، ومجتمعه «المسلم» وسياساته… من «المقاومة» حتى رفض أن تتولى المُطلّقات تعليم الناشئة!!
طبعاً، لا حاجة للمُساءلة حول أين أصبح أولئك الذين طالبت المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه بتسليمهم للعدالة. وكيف أطلق سراح قاتل الضابط الطيار سامر حنا عام 2008 بكفالة بعد 10 أشهر من قتله الضابط «عن غير قصد» (!). ولا ما حدث مع المتهم بمحاولة اغتيال النائب بطرس حرب – المعروف بالاسم -، ولا مَن نفذوا تفجيري مسجدي التقوى والسلام في مدينة طرابلس عام 2013 متسببين بقتل 49 وجرح أكثر من 800 شخص.
أكثر من هذا، أليس غريباً حكم إعدام يصدر بحق الأسير رغم «الضبابية» المحيطة بدور عناصر مسلحة معادية لجماعته كانت جزءاً من «سيناريو» القضية؟
ثم، إذا كان الرّدع دفاعاً عن أمن الوطن هو الغاية من الحكم بالإعدام، أليس غريباً أن يُحكم على العميد المتقاعد فايز كرم بالسجن لثلاث سنوات خّفّضت إلى سنتين فقط بعد إدانته «بالتعامل مع العدو» (أي إسرائيل) من دون أن يعترض حزب الله، الذي هو في آنٍ معاً حليف التيار الذي ينتمي إليه كرم… والحزب الذي يدّعي احتكار العداء لإسرائيل و«مقاومتها»؟ ثم أن يحكم أيضاً على النائب والوزير السابق ميشال سماحة، المقرّب جداً من النظام السوري، بالسجن 13 سنة وهو المُدان قضائياً بنقل أسلحة تستخدم لتفجيرات واغتيالات كانت تتعمد فتنة أهلية وطائفية في لبنان؟
أليس غريباً أن كثيرين من المسجونين في سجن رومية (شرق بيروت) بشبهة كونهم من «الإرهابيين» والمتشددين (السنّة) أمضوا في السجن، من دون توجيه تهم إليهم، فترات أطول من تلك التي كانوا سيمضونها فيه فيما لو أدينوا حقاً؟!
أمام هذا الوضع الغريب أحسب أن ممارسات كهذه أضمن وسيلة لتجنيد المتعاطفين مع الحركات المتشددة والمتطرفة. إنها بوابة المظلومية التي تتعمد «دعشنة» الناس رغماً عنهم… ودفعهم دفعاً إلى أحضان التنظيمات الإرهابية.
إنها ممارسات مجرّبة أكدت فعاليتها من قبل، في العراق وفي سوريا، بالذات. لقد جربتها القيادة الإيرانية مباشرة، وعبر وكلائها في العراق وسوريا ولبنان، بنجاح فأضعفت التيارات القومية والليبرالية واليسارية المعتدلة في أوساط المسلمين السنّة عبر تهميش ممنهج واستضعاف متعمّد… وصولاً إلى إحباطهم وتيئيسهم، ثم رميهم بـ«التكفير» و«الإرهاب».. تمهيداً لضربهم.
نوري المالكي استخدم هذا الأسلوب مع سنّة الأنبار فخلق بيئة حاضنة رغم إرادتها للمتشددين من «القاعدة». وحتى بعدما انتفض سنّة الأنبار ووقفت «الصحوات» ضد «القاعديين» وطردتهم… استمر التهميش والاضطهاد المتعمدان، فظهر «داعش» الذي سلمه حكم المالكي – قاسم سليماني مدينة الموصل وجوارها، عملياً، تسليم اليد بلا مقاومة.
وفي سوريا، استثمر نظام الأسد لسنوات بالمتطرفين من رافعي ألوية الإسلام وشعاراته، كمحمود قول آغاسي «أبو القعقاع». وكانت مهمة هؤلاء تهريب المتطرفين عبر الحدود من أجل مناوشة القوات الأميركية للتعجيل برحيلها… وتسليم العراق لقمة سائغة لإيران و«حشدها الشعبي».
وفي لبنان، كان لا بد من «دعشنة» السنّة وفق المشروع نفسه، لكن الحقيقة أن السنّة اللبنانيين هم الأبعد عن التطرف الديني والمذهب. وأحد أبرز مَن تولّوا الإفتاء منهم كان الزعيم الوطني العروبي عبد الحميد كرامي الذي تولى رئاسة الوزراء وتولاها بعده اثنان من أبنائه، والمفارقة أن الذين أزالوا النصب الذي أقيم له في مدينته طرابلس «متشددون» ترعرعوا في أحضان أجهزة الأمن السورية. ثم إن أحد المفتين السنّة في لبنان اليوم أمه مسيحية، وثمة مفتٍ آخر أزواج أولاده من الشيعة! وبعض رؤساء وزراء لبنان إما متزوجون من طوائف أخرى أو توفوا على المذهب الشيعي لأسباب تتعلق بالإرث.
نعم، السنّة في لبنان ليسوا متعصبين، لكن ثمة مَن يتعمد دفعهم إلى التعصب، مع أن هذا سيف ذو حدين.
والمراهنون على «قانون إسحق نيوتن الثالث» الذي يقول: «لكل فعل رد فعل معاكس مساوٍ في القوة» يغامرون بالكثير، لأن الجهات المصرّة على دفع السنّة دفعاً إلى التطرّف بهدف تجريمهم وضربهم تقامر بأكثر من مصير المنطقة وأكثر من الفتنة.
إنها تزرع في بيئاتها ومجتمعاتها أمراضاً قاتلة ستقضي عليها عاجلاً أو آجلاً.
نقلاعن العربیه