تذكرت الولايات المتحدة أن إهانة وجهها حزب الله إلى جوهرة القوة العسكرية الأميركية، المارينز، وأن أمر معالجة هذه الثغرة في تاريخها بات عاجلا على أجندة إدارة الرئيس دونالد ترامب.
سيتساءل المراقبون كثيرا حول السر الذي يقف وراء سكوت الولايات المتحدة الأميركية 34 عاما قبل أن تستيقظ هذه الأيام وتتذكر على عجل ذكرى تفجير دمر ثكنة المارينز في بيروت في 23 أكتوبر من عام 1983. في ذلك الزمان كان رونالد ريغن رئيسا للولايات المتحدة التي تتزعم العالم دون منازع، وكانت البوارج الأميركية في مياه لبنان قبل التفجير تدكّ دون رادع خصوم واشنطن في لبنان. فقد الأميركيون 241 قتيلا في تلك العملية، فلملمت واشنطن عسكرها ورحلت عن لبنان ومياهه.
كان ذلك منذ أكثر من ثلاثة عقود. تغير هذا العالم، لم تعد الولايات المتحدة تتربع وحيدة على قمة العالم. صحت روسيا من غفوتها في السنوات الأخيرة، فيما زحفت الصين عاما بعد عام تزرع قواها في قارات الأرض مسببة صداعا للحاكم في البيت الأبيض، كما للنخبة المنتجة للنظام السياسي والأمني والعسكري لواشنطن. يقرأ الأميركيون هذا المشهد، ويقررون إزالة الغبار عن ملف قديم ليحاكموا الفوضى التي انخرطت واشنطن في عبثها، وليصفوا حسابا مع من يعتبره نائب الرئيس الأميركي مايك بنس أصل العلة: حزب الله.
أحيت واشنطن ذكرى تفجير مقر المارينز في لبنان. تذكرت الولايات المتحدة أن إهانة وجهها حزب الله إلى جوهرة القوة العسكرية الأميركية، المارينز، وأن أمر معالجة هذه الثغرة في تاريخها بات عاجلا على أجندة إدارة الرئيس دونالد ترامب. لم يبدأ وباء الإرهاب الشامل في التاريخ الحديث منذ اعتداءات 11 سبتمبر الشهيرة عام 2001 على يد تنظيم القاعدة، بل، في ما أعلنه بنس، منذ قيام حزب الله في ثمانينات القرن الماضي. وعلى هذا فإن الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد الإرهاب المتمدد منذ سقوط الموصل في يد تنظيم أبوبكر البغدادي عام 2014، لها مفاعيل رجعية تصيب الحزب الذي يقوده حسن نصرالله هذه الأيام.
لا تحتاج الولايات المتحدة إلى إحياء الذاكرة الجمعية إلا إذا كان في ما تخططه واشنطن في المستقبل ما يتطلب استدعاء الماضي على عجل. وحين تعيد واشنطن تحريك الخنجر في جرح قديم، فذلك أن ما يُدبر يستدعي حمية أميركية جامعة تتعطش للانتقام للمئات من جنود المارينز الذين سقطوا قبل عقود ماضية.
يتحدث مايك بنس عن إرهاب دولي أشعل حزب الله شراراته الأولى منذ أن راحت خلاياه تخطف رهائن أميركيين في لبنان، وتضرب خلايا أخرى سفارة واشنطن في بيروت (18 أبريل 1983) وتدمر ثكنة جنود المارينز. وإذا ما كان منطق الأشياء يدفع باتجاه أن الأمر من الماضي وأن صنّاعه من الماضي، يخرج مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر بالتعويذة الجاهزة: من دمر ثكنة المارينز في لبنان باتوا مسؤولين كبارا في حزب الله اليوم.
قبل أسابيع أعلنت واشنطن عن مكافآت مالية لمن يدلي بمعلومات عن قياديين من حزب الله. في الأمر تصعيد نوعي لافت يختلف عن منطق العقوبات التي ما برحت الإدارات الأميركية المتعاقبة توزعها ضد خصومها كبارا كانوا أم صغارا، والأدهى أن واحدا من أولئك الذين وضعت مكافأة على رأسه (فؤاد شكر) متهم بأنه ممن تورطوا في تفجير جنود المارينز في لبنان. في ذلك أن ورشة حرب تحرّكت في واشنطن، وأن تلك الحرب تحتاج لغلاف شعبي أميركي يدافع عن “كرامة أميركا” بالنسخة التي تنفخ بها شعبوية رجل البيت الأبيض الأول.
ليس من الواضح أي حرب تنوي الولايات المتحدة خوضها للنيل ممن أشعلوا الفتيل الأول للإرهاب في العالم وفق رواية بنس المترجلة على عجل.
قبل ذلك كان ترامب نفسه قد أبلغ العالم بإستراتيجية بلاده الجديدة ضد إيران. ينقلب الرجل على عقيدة سلفه تجاه إيران. كان الرئيس السابق باراك أوباما قد أوصى بلدان الخليج (في مقابلته الشهيرة مع مجلة ذي أتلانتيك في مارس 2016) بالتفاهم مع إيران لإدارة المنطقة وتقاسم النفوذ فيها. فهم من تلك العقيدة أن باراك أوباما يميل للتعامل مع إيران بصفتها أصلاـ واعتبار أن على بقية الأطراف، لا سيما في الخليج، أن تكون فرعا.
أغلق ترامب هذه الرواية. أعاد تموضع بلاده في المنطقة بما يعيد الاعتبار لتحالفات واشنطن التاريخية بصفتها أصلا، وبما يستدعي مواجهة هذا الاستثناء الإيراني الذي يقضّ مضجع المنطقة منذ ولادة الجمهورية الإسلامية، ويقض مضجع “أميركا العميقة” منذ أن فجرت أدواتها في لبنان وجود الولايات المتحدة الدبلوماسي والعسكري في لبنان.
غادر رونالد ريغن لبنان غداة نيل حزب الله من المارينز هناك لأن انسحابه من لبنان لا ينال من زعامة بلاده المطلقة لعالم ذلك الزمان. وقد يعيد دونالد ترامب تصويب جهود بلاده ضد حزب الله في لبنان لأن مصلحة الولايات المتحدة في العالم باتت اليوم، وعلى خلاف عقيدة أوباما، تستدعي العودة بقوة إلى الشرق الأوسط، وتلك العودة تصطدم مع نفوذ إيران المتمدد في المنطقة، وبوابة ذلك الصدام تطل من حكاية فجيعة أنزلها حزب الله بالجيش الأميركي قبل عقود.
يكفي تأمل الخرائط الميدانية والسياسية للحراك الأميركي في الشرق الأوسط لاستنتاج السمات الأولى لإستراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. تعود الولايات المتحدة لتمسك بمجريات الأمور في العراق. يتحرك رئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي باتجاه العرب اتساقا مع مسعى أميركي لإبعاد طهران عن بغداد. تُظهر العواصم العربية همة جدية لاستعادة العراق، في سعي يلتقي مع الخطوط العريضة لإستراتيجية واشنطن المعلنة ضد إيران.
يعيد دونالد ترامب تصويب جهود بلاده ضد حزب الله في لبنان لأن مصلحة الولايات المتحدة في العالم باتت اليوم تستدعي العودة بقوة إلى الشرق الأوسط، وتلك العودة تصطدم مع نفوذ إيران المتمدد في المنطقة
بالمقابل يعلن دونالد ترامب أن الوجود الأميركي في سوريا ليس عابرا، وأن لواشنطن ما بعد داعش هناك خططا تستدعي “التعامل مع القوى المحلية” لإرساء السلم والتسويات. تشعر موسكو فجأة بأن الولايات المتحدة باتت ضيفا ثقيلا داخل البلد الذي اعتبره فلاديمير بوتين مشاعا روسيا منذ أن أطلـق قاذفاته لـ“ضرب الإرهاب في سـوريا” في سبتمبر مـن عام 2015. كانت موسكـو تعمل في الورشة السورية فيما تواكبها واشنطن بعناية دون اعتراض. باتت لواشنطن أجندة خاصة منافسة تنهي الاحتكار الروسي على نحو غامض لم تدركه موسكو. يخرج وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ليعترف شاكيا “أشياء غريبة يمارسها التحالف الدولي في سوريا”.
ليس صحيحا أن واشنطن لا تملك إستراتيجية في الشرق الأوسط. عملت مصر على تدبير مصالحة عجائبية بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية. فيما تقف إسرائيل مذهولة من المديح الذي تكيله منابر أميركية للاتفاق الفلسطيني الداخلي. تنشر واشنطن قواعدها العسكرية في سوريا على بعد كيلومترات من قواعد روسيا هناك، فيما يظهر في ريف الرقة المـوفد الرئاسي الأميركي إلى التحالف الدولي لمكافحة داعش بريت ماكغورك بصحبة رجل المهمات الاستثنائية في السعودية الوزير ثامر السبهان. يُسيل الحدث حبرا غزيرا يقلق طهران ودمشق وأنقرة، ذلك أن عودة الولايات المتحدة إلى المنطقة تربك كافة عواصمها وتعبث بقواعد بثها غياب أميركا-أوباما. ولا ريب أن في بيروت من فهم أن واشنطن تستدعي ذاكرة ثكنة المارينز في لبنان بما يستدعي منها ردا حازما ضد الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي مازال يرى أن لا قرار في بلدان المنطقة، بما فيها لبنان، دون الأخذ بالاعتبار كلمة طهران.
تذكرت واشنطن قتلاها في بيروت منذ 34 عاما. ربما أن استيقاظ واشنطن قد يوقظ باريس على تذكر 58 قتيلا فرنسيا سقطوا في نفس اليوم، لكن حتى الآن فإن عزف دونالد ترامب في البيت الأبيض لا تسمعه إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون في الإيليزيه. لم يذهب ريغن لوحده إلى لبنان فهل يعود ترامب إليه وحيدا؟
نقلاعن العرب