ترامب وإيران: إطلالة واشنطن الجديدة على العالم/محمد قواص

مشهد عداء ترامب لإيران يتم على خلفية عداء السياسيين الغربيين والصحافة لترامب وسياساته.

تقدم واشنطن رؤاها في السياسة الخارجية من خلال إطلالات رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب. الأمر عادي ويجب أن يكون كذلك، لكن في الشكل الذي يتولى فيه رجل البيت الأبيض تقديم روايته، وهنا نتحدث عن استراتيجية واشنطن إزاء إيران، ما يشبه نزقاً شخصيا يتولاه المرشح ترامب لحصد أصوات الناخبين على الرغم من أن الرجل بات رئيسا كامل الصلاحيات منذ بداية العام.

والمشكلة أنه في السعي للاطلاع على الموقف الأميركي وكواليسه من خلال متابعة الصحافة الأميركية سهو عن حقيقة أن تسعين بالمئة من هذه الصحافة تكره ترامب وتعمل على تفريغ قراراته، وبالتالي فإن محاولة فهم استراتيجية الولايات المتحدة في تناول شؤون العالم من خلال سطور صحافييها، تصبح مشوّهة مرتبكة حين تصدر عن ترامب وتفسرّها الواشنطن بوست والنيويورك تايمز وأخواتهما.

وما أعلنه دونالد ترامب بشأن مقاربة الحالة الإيرانية قد يعد إنقلاباً جذريا في رؤى واشنطن السابقة، لا سيما في عهدي الرئيس السابق باراك أوباما، ويمثل إعادة تعريف لوظيفة الولايات المتحدة على رأس هذا العالم. ففيما كانت الولايات المتحدة تتمتع في لملمة تراثها الشرق أوسطي وتمعن في الانسحاب من تقاليدها في المنطقة، تعيد إدارة ترامب توجيه دفة استراتيجيتها في هذا الشرق إلى ما يعيد لها زعامة القرار والرعاية داخل كافة ملفات هذه المنطقة، وربما العالم أجمع.

غير أن ترامبية الخطاب الأميركي الجديد حيال إيران تطرح أسئلة حقيقية حول ما إذا كان الرئيس الأميركي ينطق بما يتماشى صوريا مع وعوده الانتخابية أم أن الأمر يمثل الفكر الاستراتيجي العميق للولايات المتحدة. كما يلقي شكوكا أخرى حول ما إذا كان ترامب يسعى للاطاحة بـ “إنجازات” سلفه فقط، لمجرد الخضوع لنزوع شخصي انتقامي أهوج دون نضج خيارات بديلة على منوال تعجّله بالإطاحة بالنظام الصحي المسمى “أوباما كير” دون التوصّل حتى الآن إلى بديل ناجع يرضي الكونغرس.

بدا موقف ترامب من الاتفاق النووي “انتخابيا” لا يغير كثيرا من موقف الولايات المتحدة المقبل حيال الاتفاق، كما لا يهدد موقع هذا الاتفاق بالنسبة لباقي الموقعين. يرضي ترامب غروره بتأكيد اتساقه كرئيس مع تبرّمه كمرشح من “اتفاق أوباما” النووي، وبارتباط مصير تركة أوباما بمزاجه. سحب ترامب بلاده من اتفاقية المناخ دون أن يكون ذلك وليد ضغوط داخلية من لوبيات صناعية، وهو قبل ذلك أصدر مراسيمه المقيّدة لدخول مواطني بعض الدول الإسلامية إلى بلاده دون أي يكون ذلك نتاج ضغط من أجهزة الأمن والمخابرات في الولايات المتحدة. ويقفز ترامب حالياً صوب موقف ملتبس مرتجل من البرنامج النووي الإيراني على الرغم من تحذيرات، حتى من داخل الحزب الجمهوري ومن إسرائيل نفسها، بضرورة الإبقاء على هذا الاتفاق.

للرئيس الكلمة الاولى والاخيرة في الولايات المتحدة. وحين يقذف ترامب باستراتيجيته لمواجهة إيران فإن كافة شخوص الإدارة تعيد التموضع وفق قرار الرئيس. هكذا تجتمع كلمة نيكي هايلي مندوبة واشنطن في الامم المتحدة في نيويورك، الترامبية الهوى، مع كلمة وزير الخارجية ريكس تيليرسون، الذي قيل أنه وصف رئيسه بالأحمق قبل أسبوع، بكلمة وزير الدفاع جيمس ماتيس، الذي كان يدافع عن ضرورة عدم انسحاب بلاده من اتفاق فيينا لعام 2015 الشهير.

ظهر أن موقف ترامب من الاتفاق النووي تفصيل هامشي أضيف إرضاء لسيّد البيت الأبيض على خطة عمل ميدانية أمنية عسكرية دبلوماسية تروم وقف تضخم الظاهرة الإيرانية في الشرق الأوسط. لم تعد إسرائيل معنية بالجعجعة التي كان يطلقها رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في عهد أوباما في مواكبة المفاوضات التي أفضت إلى ذلك الاتفاق. باتت تل أبيب تتحدث عن خطر إيراني في الشمال يمتد من سوريا إلى لبنان لا علاقة له بأي برنامج نووي. وباتت السعودية، التي أيدت الاتفاق النووي رغم تحفظها على الظروف التي أحاطت بإبرامه، لا سيما في إهمال إشراكها في مداولاته، تتنتهج سياستها الخاصة (في موسكو وبغداد وبيروت… إلخ) لمواجهة التمدد الإيراني في أحزابه وتياراته ومنظماته وخلاياه، وهو أمر لا علاقة له ببرنامج طهران النووي. بمعنى آخر، بدا أن إيران أقفلت ملف برنامجها النووي ممنية النفس بأن “الحذاقة” التي أسكتت بها المجتمع الدولي تتيح لها فجورا في رسم سياستها بشراسة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وما يتداعاه ذلك على الخليج والمنطقة برمتها.

تمثّل الاستراتجية الأميركية الجديدة للولايات المتحدة ضد إيران عملية متعددة الأبعاد لا تستهدف طهران فقط، بل تضع حدودا ومحددات لمناورات موسكو، وربما بكين، في المنطقة. تعود الولايات المتحدة بقوة، من خلال تدابيرها المعلنة والمقبلة ضد الحرس الثوري الإيراني، لوضع أسس وقواعد للمحافظة على المصالح الأميركية في المنطقة. فإذا ما كان حراك إيران وحرسها وميليشياتها أساسا حيويا في استراتيجية روسيا في الأتون السوري، فإن التخطيط لضرب الأخطبوط الإيراني الذي يغذيه الحرس الثوري وفيلق النخبة المسمى “فيلق القدس” بقيادة اللواء قاسم سليماني، يضرب الاستراتيجية الروسية نفسها، على الأقل بالشروط التي أطلق من خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العملية العسكرية الروسية في سوريا في سبتمبر 2015.

صدر عن حلفاء واشنطن عشية إعلان ترامب عن استراتيجيته ما يفهم منه ابتعاد علني عن خيار واشنطن الانسحاب من الاتفاق النووي. لندن وبرلين متمسكتان بالاتفاق، فيما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فوق ذلك، أعلن أنه ينوي زيارة طهران في سابقة تاريخية صادمة. لكن هذه العواصم نفسها لن تعترض على خيارات الولايات المتحدة في التصدي للحرس الثوري المسؤول تاريخيا عن أعمال إرهابية طالت هذه العواصم كما مصالحها في العالم. على هذا، وبعد 24 ساعة على إعلان ترامب استراتيجيته، تكشف لندن أن ما كانت تعتقده من تورّط روسي في هجمات الكترونية طالت مجلس العموم البريطاني وبرلمانيه في يونيو الماضي، اكتشفت إنه إيراني مصدره قراصنة تحركهم طهران.

في ذلك أن التحوّل الأميركي في مسألة مكافحة نفوذ إيران في الشرق الأوسط بما في ذلك أدواته الإرهابية، سيحظى باجماع غربي لا يمكن معارضته. وفي ذلك أيضا أن موسكو التي تسعى لاختراق الشرق الأوسط دون كثير استفزاز واستعداء للولايات المتحدة، ستأخذ جيدا بعين الاعتبار، وربما بعين الرضى، تدابير واشنطن ضد الحرس الثوري بصفتها مصلحة مشتركة ترفع من شأن الشراكة الروسية الأميركية في ميادين تتقاطع داخلها أجندات موسكو بأجندات طهران.

ربما ما زال مبكراً استشراف مفاعيل الاستدارة الاميركية على مستقبل الشرق الاوسط. طرُب ترامب لمسألة أن مستقبل الاتفاق النووي بات مرتبطاً بمزاجه ورضاه، لكن الحضور الأميركي في مياه المنطقة وبراريها بات، وفق تلك الاستراتيجية، في مواجهة مباشرة علنية مع الحضور الإيراني في المنطقة، مع ما يعنيه ذلك من احتمالات الاحتكاك والمواجهة. وقد لا يكون مستبعداً أن هذا الصدام، على الأقل في ما أفاض به وزير الدفاع الإسرائيلي عن حرب إسرائيلية ضد الشمال اللبناني السوري، بات مطلوبا، ولو بجرعات مدروسة، في السعي لإطلاق استدارات كبرى للتعامل مع حالة “كوريا الشمالية” وأعراضها الروسية الصينية المقلقة.

ميدل ايست أونلاين

محمد قواص