التعديلات القانونية الجديدة في بريطانيا لإدراج الإهانات في وسائل التواصل الاجتماعي على لائحة القانون الجنائي بجرائم الكراهية تعبر عن ظاهرة عالمية جديدة تهدد التقدم الفكري والاجتماعي الذي وصل إلى أوجه في حرية التعبير.
تزامن تعديل القانون مع تعرضي لهجوم شخصي على «فيسبوك» جعلني أتوقف قليلاً عند مفهوم المثقفين الليبراليين، وبالتحديد من يقفون بفخر واعتزاز تحت لافتة «التقدميين»، عن حرية التعبير. بالمناسبة «التقدميون» كلمة ارتبطت في منتصف القرن العشرين بالحركات اليسارية والاشتراكية الشيوعية بوصفها دعوة لتقدم البشرية.
ولما كانت حرية الإنسان الشخصية والاجتماعية في الفكر والتعبير من أهم دلائل تقدم البشرية فلماذا لا يكون الليبراليون و«التقدميون» أول المدافعين عن حرية الاختيار الثقافي فيما تقرأه العيون وتسمعه الآذان، وحرية التعبير ومشاركة الناس عما تعبر عنه؟
ولأني، حسب التعبير الإنجليزي الشهير، من ذوي الجلد السميك، الذي يحتمل وخزات الإبر التريكو، فقد اعتدت على الهجوم المستمر سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الوسائل التقليدية قبل اختراع الإنترنت مثل خطابات التهديد والشتائم ومكالمات تليفونية تهدد بالقتل، وبالطبع لا أفكر حتى في إضاعة وقت البوليس بالتبليغ عنها. فالصحافي والكاتب والمعلق السياسي، خاصة في التلفزيون والإذاعة، شخصية عامة، وعليه دفع هذه الضريبة.
لكن ما أتوقف عنده هو رد فعل الليبراليين والتقدميين الذين لا يكتفون باستمرارهم في محاولات فرض الرقابة عليك كاتبا ومعلقا سياسيا لتصوغ ما تنشره أو تبثه ليحظى بقبولهم، بل فرض الرقابة على دورك بوصفك رسولا محايدا، حسب القول الشهير: «ناقل الكفر ليس بكافر». فمثلاً على «تويتر» (وعلى بقية وسائل التواصل الاجتماعي التي أشارك فيها) أضع على البروفايل عبارة واضحة: «نشر مقالات أو تقارير طرف ثالث بلا تعليق لا تعني الموافقة على المحتوى أو رفضه، وإنما لطرحها للقراءة بحياد»، ورغم ذلك تجد نفسك هدفاً لسهام الليبراليين؛ إذ لا يسمحون لك حتى بمجرد إعادة تغريد ما نشره آخرون لمجرد أنها تناقض وجهة نظرهم للعالم..
هذه الظاهرة أصبحت عالمية لا تقتصر على بلد بعينه، خاصة بعد أن أدت الأدوات الديمقراطية، التي كانت الدم في عروق وشرايين الليبراليين، عند تشغيلها في التطبيق العملي، إلى نتائج هددت تفوق وسيادة مؤسستهم الليبرالية على المجتمع. فلأكثر من نصف قرن كانت المؤسسة الليبرالية التي تصنف في المقياس السياسي على يسار الوسط (بمفاهيم المساواة بين الجنسين ومنح حقوق امتيازية للأقليات تفوق حقوق الأغلبية، وكسر التقاليد المحافظة وترويج قضايا البيئة وحقوق الحيوان، والتقليل من شأن الرموز التاريخية في المجتمع وكسر التقاليد وتهميش دور مؤسسات اجتماعية كالأسرة والمدرسة…) هي السائدة والمسيطرة على المجتمع، سواء في تشكيل الرأي العام عبر وسائل الصحافة والنشر والتعبير الفني والثقافي في الكتب والمسرح والسينما؛ أو في الحكم لتكرار فوزها في الانتخابات في الديمقراطيات الغربية. بل إن الأحزاب والتيارات الكلاسيكية التقليدية المحافظة عدلت برامجها لتتضمن برامج الليبراليين والتقدميين.
تصويت البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الأميركيين لدونالد ترمب ضد رغبة وأهداف المؤسسة الليبرالية رغم حشدها كل إمكاناتها سواء السياسية أو الصحافية أو إمكانات صناعة الثقافة والفنون لتجنب هاتين النتيجتين، كان صدمة غير متوقعة وضعت الليبراليين والتقدميين في تناقض مع أنفسهم.
الليبراليون والتقدميون يجبرون المؤسسة على تعديل القوانين أو إصدار قوانين جديدة تناقض جوهر الأسس الليبرالية نفسها مثلما حدث مع الحملة التي أدت إلى تعريفات قانونية جديدة لجرائم الكراهية… هو في جوهره فرض رقابة على الخصوم، ومنع نشر ما يخالفهم الرأي.
مجموعة من المشاهير، وهم شخصيات عامة، يصوبون «تويتراتهم» و«فيسبوكاتهم» على مدار الأربع وعشرين ساعة نحو الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويطلقون أكثر العبارات والأوصاف عنفاً وإهانة… هذه الشخصيات العامة نفسها عندما تتعرض للانتقاد أو الهجوم على وسائل التواصل الاجتماعي نفسها تصرخ وتستغيث بأنها تتعرض لحملة كراهية وتجبر المؤسسة الحاكمة على تغيير القوانين، أي أن قبولها حرية التعبير ينحصر فقط في أن يكون التعبير متسقاً مع مواقفها ومصالحها والباقي يصفونه بـ«الأخبار المزيفة».
العبارة الشهيرة: «سيدي إني أستهجن ما تقوله، لكني سأدافع حتى الموت عن حقك في التعبير عن رأيك»، الذي ظهر في 1906 للكاتبة الإنجليزية إيفلين بياتريس هول (1868 – 1956) في كتابها «أصدقاء فولتير» تعبيرا عن موقف فولتير الليبرالي الحقيقي من حرية التعبير (وكثيرون ينسبون القول خطأ للأديب والفيلسوف الفرنسي فولتير)، أصبحت العبارة رمزاً لحرية التعبير بوصفها حقا مقدسا لا يتجزأ من الليبرالية وأيضاً التزام الليبراليين بالدفاع عن حق الآخرين في التعبير بحرية، حتى وإن اختلفوا مع الجوهر، وكل من هول وفولتير يمثلان الأصولية الليبرالية في أنقى أنواعها الاجتماعية والثقافية، لكن ليبراليي اليوم من صنف آخر؛ فالليبراليون الذين يستخدمون مبادئ مناهضة العنصرية والإسلاموفوبيا لفرض الرقابة على آراء ومواقف لا يستسيغونها لا يختلفون عن أي نظام أوتوقراطي شمولي لا يسمح بالتعددية والاختلاف أو حتى التعبير بشكل مختلف عما قرره النظام. الخطورة اليوم أن ما يحدث في العالم كله وليس في الديمقراطيات الغربية فقط هو نمو تيار بين أفراد وجماعات يعتبرون أفكارهم أو منظومتهم الفكرية أو رؤيتهم للعالم هي الأفضل، وسواء كانوا من الليبراليين الغربيين أو من الآيديولوجيين اليساريين أو من الجماعات الإسلامية الراديكالية فهم ينظرون بفوقية واستعلائية لمنظومات فكرية أخرى بأنها دونية لا يجب التسامح معها أو قبولها. وكلا الموقفين متطرف.
في الغرب يجبر الليبراليون الحكومات (لأنهم بحكم تراكم السنوات الماضية تجدهم في مواقع صياغة وتوجيه الرأي العام) على استخدام القوانين لفرض الرقابة والحد من حرية التعبير؛ وفي الشرق ربما انكمش الليبراليون بوصفهم سلالة على وشك الانقراض، فأصبح المسيطرون على الرأي العام هم الإسلامويون.
وإذا كان نظام التعليم في الغرب غرس في التيار الليبرالي (والتقدمي) فكرة التفوق الثقافي ونظرة التعالي الاجتماعي، فإن تراجع مستوى التعليم عما كان عليه في الأربعينات والخمسينات من انفتاح على الثقافة والفنون منح الإسلامويين فرصة إقناع المجتمع في سنوات قليلة بتفوقهم الأخلاقي والديني على أي منظومات فكرية أخرى، وبالتالي يتولى المجتمع نفسه، في المرحلة الحالية، مهمة فرض الرقابة على أي تعبيرات أو اجتهادات فكرية لا تنسجم مع الاتجاه العام المقبول على أنه الأفضل من الآخرين.
نقلاعن العربیه