تعامل العالم، بشرقه وغربه، مع النظام السوري بصفته ضرورة من ضرورات التوازنين الإقليمي والدولي، كما أن نظام دمشق بقيادة حافظ ثم بشار الأسد لم يتجاوز إلا ما هو متاح ومسموح في اللعبة الدولية الخبيثة.
التزمت دمشق بدقة بمسألة إسكات جبهة الجولان منذ 1974 وباحترام الخطوط الحمر مع إسرائيل في لبنان. أطاحت العرفاتية حين كان أمر ذلك متاحاً ولم تجد حرجاً في وضع قوات سورية تحت العلم الأميركي في حرب تحرير الكويت. وحين كانت حيوية النظام السوري تلتحق بديناميات ثورة الخميني، كان عقل النظام يعمل وفق مقاربة لا تعاند الرياح التي تنفخها واشنطن. فنظام دمشق قام على ضرورات وظيفية عمل على صونها والترويج لقدريتها. وحين تقوم ثورة قي سورية لاقتلاع النظام، فذلك يعني أن ركناً أساسياً له تاريخ عريق في المنظومة الدولية مهدد بالزوال. وهذا يعني أيضاً أن احتمالاً من هذا النوع لن يمر إلا إذا أجمعت تلك المنظومة على جواز ذلك، أو فرضت موازين القوى العالمية هذا الخيار. مر أمر ذلك في مصر وتونس وليبيا ولم يمر في سورية.
لا يستطيع ثوار سورية أن ينجحوا في إزالة نظام الأسد من دون تأييد حقيقي ودعم ناجع من دول القرار الكبرى. لم ينجح انقلاب 63 من دون هذه القاعدة ولم يرتكب حافظ الأسد «تصحيحيته» من دون إدراك ذلك. بدا حراك السوريين في أشهره الأولى عام 2011، شرعياً عادلاً محقاً يتّسق مع قيم الحداثة بنسختها الغربية على الأقل. لم تكن العواصم الغربية بكينونتها السياسية والثقافية والحقوقية لتتجاهل «ربيعاً» سورياً لا يختلف في شعاراته عن تلك التي شاعت في أوروبا الشرقية فأسقطت نظاماً عالميا برمته. كان لا بد لتلك الثورة أن تصبح مأساة سورية وكابوساً على العالم أجمع. خرجت القيادات الأولى لثورة السوريين من أجندتها الأصلية لتلتحق بأجندات دينية تتجاوز بساطة أمر الاستبداد وإقامة نظام حر متعدد ديموقراطي. نجح نظام دمشق في دفع السلميين إلى التسليم بخيارات العنف وفي دفع العلمانيين إلى القبول بالأسلمة وسيلة لتحقيق الهدف الأسمى. برع النظام في نفخ غول التطرف الديني في متن معارضيه. أطلق من سجونه من باتوا لاحقاً قيادات مؤسسة لتنظيمي «داعش» و «القاعدة» في سورية، فيما وجد الجهاديون المحررون أو المستوردون في أجندات العواصم الإقليمية المناصرة للثورة مساحات مفتوحة بلا تردد أو ارتباك. يعرف نظام دمشق المنظومة الدولية جيداً. تعرف طهران الداعمة له فلسفة العقل في العواصم الكبرى. خبرت العاصمتان الرقص مع الشيطان وملاعبة الثعابين. لم تعرف المعارضة السورية ذلك وأمعنت في ممارسة سذاجة سياسية سلبت منها أي حنكة في مواجهة الخصوم وفي «مواجهة» الحلفاء. فكان أن وجد العالم المشهد السوري وفق السيناريو والإخراج الذي رعته روسيا لاحقاً ليقود الغرب قبل الشرق إلى التسليم بما اكتشفه رئيس فرنسا الجديد من أن لا بديل عن الأسد لحكم دمشق.
دعمت العواصم الغربية في الثمانينات جماعات الجهاد الإسلامية من أجل إلحاق هزيمة بالاتحاد السوفياتي في أفغانستان، لكنها لن تدعم جماعات الجهاد، سواء صنفوا معتدلين أو إرهابيين، لإقامة حكم طالباني جديد في سورية. يعيش الغرب منذ ما قبل «غزوة» 11 سبتمبر هاجس هذا الإسلام الذي استشرف فيه هانتنغتون الشهير صداماً للحضارات. ولن يقوى أي نظام غربي أن يعبد الطريق لهذا الإسلام لإطاحة مستبد ليقيم دولة الخلافة سواء تلك التي يبشر بها «داعش» أو تلك التي تفوح بها أدبيات الإسلاميين المعتدلين.
لم يكن خطاب الدولة المدنية الحديثة طاغياً في خطاب الهيئات والمؤسسات التي تعاقبت على تمثيل المعارضة السورية. ولم يكن المانحون الإقليميون مهتمين لخطاب طوباوي يتحرى دولة أفلاطون. فُرض على المبشرين بالدولة المدنية التحالف ثم التواطؤ مع الإسلاميين، فحين قرر العالم وضع النصرة على لائحة الإرهاب، خرج من تلك المعارضة العلمانية المدنية من دان ذلك، وقال إنهم ثوار سوريون.
فشلت المعارضة في إنتاج خطاب جلي حازم حاسم في قضايا الهوية والوحدة والعلاقة مع الأقليات، الطائفية خصوصاً والعرقية أيضاً. لم يسمع الغربيون نغماً يفهمه ويستطيع فك رموزه، فيما استطاع الإنصات ملياً وباهتمام إلى إسلاموية يفوح منها إرهاب معلن عابر للحدود، حملته موجات اللجوء الصادم إلى قلب أوروبا. لن يكون السوريون مسؤولين عن ترتيبات تُعد لبلدهم لا يبدو أنها ستزيل نظاماً أو حتى تصلح من متنه. تتحمل الأجندات الدولية والإقليمية المتعارضة مسؤولية المآلات التي تعيد إلى نظام دمشق وظيفته المطلوبة لضبط التوازنات الدولية. وبما أن الأسلمة بنسختها السنّية أهملت أبجديات العلاقات الدولية، قيّض للأسلمة بنسختها الشيعية أن تحاكي هواجس تخطّها أجهزة المخابرات الدولية الكبرى.
تقاطعت مصالح الإسلاموية بالطبعة الإيرانية مع مصالح العداء المطلق للإسلاموية كما تجسدها روسيا بقيادة فلاديمير بوتين. لا يمكن إلا الاعتراف بأن التحالف الدولي ضد «داعش» بقيادة واشنطن يرابط في خندق واحد مع موسكو وطهران وحتى «حزب الله» ضد تنظيم البغدادي وبقية الجماعات المجمع على تصنيفها إرهابية. لم تلتقط المعارضة السورية قواعد الثابت والمتحوّل، وهو أمر ينسحب على مزاج إقليمي رديف تصوّر أنه من خلال أمراء الجهاد باستطاعته إزاحة ذلك الأمير في دمشق.
نقلاعن الحیاة