أهّل عتاة المُستقطٓبين في لبنان نحو طهران ودمشق والمتأملين المحليين لما يجري في تلعفر والعوامية وتعز وبنغازي، من استعادة زمام المبادرة من أولئك الذين ما زالوا ينظرون إلى العالم من حسابات الأشرفية وعكار وزحلة والشوف.
يتجه لبنان إلى التموضع خلف الأعراض الجديدة التي تَعِدُ بتعويم النظام السوري ورئيسه في أي تسوية مقبلة للمأساة السورية. وما الجدل حول ذهاب وزراء لبنانيين إلى دمشق، إلا من قبيل تثبيت العلامات الأولى لهذا التموضع بصفته مسلّمة من مسلمات معركة جرود عرسال الفتية ونتيجة طبيعية لما استثمره حزب الله في حربه السورية على مدى السنوات الأخيرة.
وطالما أن السياسيين اللبنانيين الموالين للنظام السوري لم يخفوا ذلك الولاء يوما ولم ينقطعوا عن زيارة العاصمة السورية، فإن الضجيج الحالي، الذي يشارك به السفير السوري في بيروت لا يعدو كونه موسيقى تصويرية مواكبة لمشهد الأمر الواقع. فإذا ما أراد العالم، بخبث وارتباك وتواطؤ، تثبيت بشار الأسد رئيسا تعترف به المرحلة الانتقالية، فإن بيروت لن تقوى على معاندة ما ترسمه العواصم الكبرى وما تحيكه غُرفها.
على أن غبار الجدل يخفي ترابطا منطقيا بين الالتحاق العسكري لحدود لبنان الشرقية بـ “سوريا المفيدة”، وبين وصل سياسي آلي بين نظاميْ الحكم في بيروت ودمشق. ولئن ما زالت تفاهمات آستانا وملحقاتها المُنتجة في عمّان والقاهرة تنفخ في “مناطق خفض توتر” وترسم الملامح الأولى لسوريا المستقبل، فإن الورشة التي تُعدُّ في الرياض لضمّ منصتيْ القاهرة وموسكو إلى “الهيئة العليا للمفاوضات”، إضافة إلى “قامات وطنية” أخرى، تؤسس لمداخل إقليمية جديدة توفّر لـ “جنيف” الجديد العناصر المطلوبة لولادة المخلوق الموعود.
وقد يكون من شبهة لإعادة الاعتبار الإقليمي والدولي لنظام دمشق ورئيسه، إلا أن المطلوب من النظام السياسي اللبناني أن يوفّر يقينيات ذلك بالشكل والمضمون.
في الشكل أن التنسيق الأمني والعسكري أصبح من تقنيات الواقع الميداني ضد “العدو المشترك”، وفي المضمون أن التواصل بات حكوميا يجسده تواصل وزراء لبنانيين مع نظرائهم، وتؤكده زياراتهم بصفتهم وزراء تلقوا دعوة من الحكومة السورية. أما التبرير بأن سلوك الوزراء الزائرين شخصي، على ما صدر من فتاوى حكومية، فلا يعدو كونه إقرارا بأن سوريا الأسد تعود نهارا إلى واجهات الحكم اللبناني فيما لم تغادر كواليسه ليلا.
لن يمتلك رئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري أن يواجه طوفان “العودة” الدمشقية إلى بيروت وهو الذي بشّر بسليمان فرنجية، حليف النظام السوري وصديق رئيسه الشخصي، رئيسا للجمهورية اللبنانية. ولن يقاوم الحريري كثيرا وفي قصر بعبدا حاليا رئيس حليف لدمشق وطهران بنى مشواره من باريس إلى بعبدا وفق خريطة طريق واكبه بها حزب الله منذ “ورقة التفاهم” الشهيرة. ولن يستطيع قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع ادعاء المفاجأة في أمر “التطبيع” الجاري بين نظامي لبنان وسوريا، وهو الذي، نكاية باحتمال فرنجية رئيسا، أطلق العدّ العكسي لميشال عون بديلا.
قد يسجل للحريري وجعجع أنهما، وحتى اشعار آخر، يعترضان، كل وفق أسلوبه ووسائله، على المنحى الناشط لشدّ حكومة بيروت نحو “وصاية” سورية جديدة تعيد ضبط عقارب البلد على التوقيت الذي ترتئيه دمشق. وقد يسجل للزعيمين أنهما يسبحان ضد التيار، على ما يخرج من عواصم ومنابر دولية كبرى تنفخ برياح أخرى.
توقفت واشنطن عن استهداف نظام دمشق ولم تعد تعتبر رحيل رئيسه مدخلا إجباريا لأي حل. وفيما كانت باريس في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند تنتهج موقفا صقوريا في الدعوة إلى إزاحة الأسد والتبشير بمقاربة عسكرية لإزاحته ونظامه، فإن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، يجد في بشار الأسد ترياقا وحيدا في غياب بدائل لا يراها ولا يروم اكتشافها.
على أن أزمة زيارة وزراء من حكومة بيروت لدمشق تزيل أقنعة تجميلية لطالما صاحبت ولادة العهد وحكومته الميمونة.
يبدو السجال مطلوبا لإعادة فرز هندسي جلي للتيارات السياسية اللبنانية وإعادة ترتيب اصطفافاتها وفق خندقيْ 8 و14 آذار اللذين طبعا المشهد السياسي اللبناني غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعشية انسحاب القوات السورية من لبنان. لن يكون مقبولا أن تعزف بيروت اللحن الممل حول لازمة “النأي بالنفس”، فيما تحضّر “جنيف” عزفا آخر يستلهم نغماته مما يُعدُّ في عمّان والرياض والقاهرة وآستانا وغيرها. وإذا ما كانت الورش التسووية المقبلة ستلدُ في الأجل الطويل سمات سورية مستحدثة، فإن أجندة إيران في لبنان ستفرض على بيروت تحوّلا آنيا سريعا لا يتحمل توقيتات آجلة.
يخضع “الانحراف” اللبناني لدفتر شروط يفرضه حزب الله لمعاندة تفاهمات واشنطن وموسكو الملتبسة في سوريا. بالمقابل فإن لبساً يشوب الإشارات الأميركية بين تلك التي أوحى بها خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حضرة رئيس الحكومة اللبنانية في واشنطن بشأن حزب الله، وقرار ترامب نفسه وقف برنامج دعم المعارضة السورية.
ويأتي التحوّل الدولي لينفخ ضبابا على ضبابية العواصم الإقليمية المعنية بالشأن السوري، والتي، رغم تأكيدها على الثوابت في شأن مستقبل النظام، تتيح للشقّ “الممانع” من النظام السياسي اللبناني المسارعة لتسجيل أهدافه في شأن هذا الاستحقاق، وتترك الشقّ الآخر متخبطا في السعي للعوم داخل محيط تكثر وتعلو أمواجه وتبتعد شواطئه إلى حدود الغياب.
والحال أن المنابر اللبنانية الموالية لدمشق تنتعشُ هذه الأيام وتمنّي النفس بالرجوع إلى “أمجاد” اندثرت وامتيازات هزلت.
والحال أيضا أن انهيار “السيادية” عقيدةً، حوّل السياديين إلى مغرقين في براغماتية تحت مسوّغ التعامل مع الأمر الواقع وانتهاج الواقعية السياسية، على النحو الذي جعل من ممارسة السياسة حرفة للبقاء، والبقاء فقط، وليس تمرينا للبناء، والبناء على البناء.
وعليه يكتشف تيار المستقبل والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي، وحتى حزب الكتائب المفترض أنه معارض للعهد والعهديين، أن الاستغراق في السلوك الحسابي الذي صاحب انتاج قانون الانتخابات الجديد، بما في ذلك انقاذ التمثيل المسيحي ونقل مقاعد نيابية من دوائر إلى أخرى، أهّل عتاة المُستقطٓبين في لبنان نحو طهران ودمشق والمتأملين المحليين لما يجري في تلعفر والعوامية وتعز وبنغازي، من استعادة زمام المبادرة من أولئك الذين ما زالوا ينظرون إلى العالم من حسابات الأشرفية وعكار وزحلة والشوف.
والأدهى في جدل زيارات وزراء لبنانيين إلى دمشق، أن هذا الجدل مفتعل هدفه الإيحاء بأن هناك معركة لبنانية تُخاض حول الأمر سينتصر فيها الزائرون.
تهكّٓمٓ الحريري بالقول إنه لا يستطيع زيارة دمشق لأنه محكوم بالإعدام هناك، ليجيبه وزير حزب الله حسين الحج حسن أنه هو يستطيع الذهاب.
الأمر بسيط سطحي بالنسبة لوزراء الثنائي الشيعي، فبالإمكان زيارة دمشق والعودة لممارسة التعايش الحكومي، كما بإمكان سمير جعجع بدوره أن يخصص مؤتمرا صحفيا لرفض الأمر والاعتراض على حالة التطبيع مع النظام السوري التي يسعى الزائرون لفرضها على البلد، ليستمر نفس التعايش بعد عودتهم الميمونة.
على أن تواصل وزراء سوريا ولبنان يجري فيما تجول سفيرة الولايات المتحدة في بيروت على ساسة البلد محذّرة من تنسيق بين بيروت ودمشق ومن مشاركة حزب الله في معركة جرود رأس بعلبك والقاع ضد “داعش” والمفترض أن يخوضها الجيش اللبناني الذي تسانده واشنطن. بمعنى آخر، فإن العبث السوري الإيراني يأتي مناكفا لترتيبات واشنطن في المنطقة، ويراد منه إبلاغ إدارة البيت الأبيض أن إيران رقم صعب في العراق وسوريا كما داخل حكومة لبنان في بيروت.