خمسون عما مرت الآن على إعدام الناضل الثوري العالمي تشي غيفارا الذي لا يزال من بين كلّ الثوريّين الكبار الذين عرفوا خلال القرن العشرين يحظى باحترام وتقدير وحبّ الكثيرين، ومن مختلف الأجيال ،ليس فقط في أمريكا اللاتينيّة ،وإنّما في جميع أنحاء العالم.ولا زالت صوره ترفع في المظاهرات التي تشهدها عواصم ومدن الدول الغنيّة ،كما الدول الفقيرة.ولعل ذلك يعود الى استشهاده البطولي،والى تعلقه بالحلم الثوري حتى النهابة.ثم إنه رحل عن الدنيا من دون أن يتلطّخ بوسخ السلطة ،ومن دون أن يكون ضحيّة مزالقها ومؤامراتها.
**
ينتمي تشي غيفارا المولود عام 1928 في العاصمة الأرجنتينية بيونس -آيرس الى عائلة بورجوازيّة عريقة.وقي حين لم يترك والده أيّ أثر في سلوكه،وفي تربيته،فإنّ والدته كان لها، خصوصا في البداية ،تأثير كبير على توجّهاته وافكاره.فمنها استمدّ مفهوم “الأرجنتينيّة”التي تحدث عنها خورخي لويس بورخيس ،والتي يختلط فيها الشغف بتاريخ امريكا اللاتينيّة بالإعجاب بالثوريين الوطنيين العظام،و”آباء الوطن”.ومبكّرا، وتحت تأثير والدته أيضا، إنجذب أرنستو غيفارا(هكذا كان إسمه قبل ان يلقب بتشي) الى الجمهوريين.ورغم اصابته بالربو الذي لازمه طوال حياته،فإنه اكتسب بنية صلبة بفضل الرياضة.ومعلّقا على هذا الجانب ،كتب أحدهم يقول:”إنّنا نرى من خلال هذا الكفاح ضدّ المرض بوجه عام ، جذور هذه الإرادة الثابتة في تحمّل المسؤوليّة، وفي التجاوزات التي تميّز سلوكه، مُنضافة اليها روح لاذعة فيها من السخرية أكثر مما فيها من الظرف:لا يرحم نفسه، وقاس مع الآخرين”.وكان الزعيم الهندي الماتهاما غاندي من اوّل الشخصيّات السياسية التي فتن بها الشاب ارنستو غيفارا.لكن في ما بعد سوف ينقلب على فكرته الأساسيّة المتمثّلة في رفضه للعنف،مختارا الكفاح المسلح وسيلة لبلوغ اهدافه الثوريّة.
وكان أرنستو غيفارا في الواحدة والعشرين من عمره لما قرر القيام برحلة عبر بلدان أمريكا اللاتينيّة على الدراجة الناريّة بصحبة صديق له،كان يدرس معه في كليّة الطب.وأمام الجميع كان يجاهر بإعجابه بالماركسيّة، وبالشيوعيين الأرجنتينيين.وخلال هذه الجولة الطويلة،اكتشف الواقع الحقيقي لبلدان امريكا اللاتينيّة.فقد عمل أثناءها متطوعا في المستشفيات، مُختلطا بعمال المناجم،وبالهنود.كما اقترب من المثقفين اليساريين مثيرا معهم قضايا سياسية وايديولوجيّة ساخنة.ولعلّ ميخائيل لووي كان على حقّ عندما أشار الى ان سلوك غيفارا خلال الرحلة المذكورة كان شبيها الى حدّ كبير بسلوك”الأطبّاء الحمر”الأوروبيين في القرن التسع عشر،والذين كانوا قد إنحازوا الى المذاهب الإجتماعية الثوريّة إعتمادا على تجاربهم.وفي بعد سوف يشير غيفارا الى انه كان خلال رحلته الطويلة على صلة يوميّة بالفقراء، وبالمشردين،وبالأطفال الصغار الذين كانوا يعانون من اأراض مستعصية.وفي عام 1953 ،قام ارنستو غيفارا بجولة ثانية في بلدان امريكا اللاتيية.وقد قادته تلك الجولة الى غواتيمالا، بلد الكاتب الكبير ميغال أنجيل استورياس (1899-1974)،الحائز على جائزة نوبل للآداب ،والذي كان قد أدان في روايته الشهيرة:”السيد الرئيس” الأنظمة الديكتاتوريّة التي كانت تحكم قبضتها على جلّ بلدان امريكا الجنوبيّة.وفي هذه الفترة من حياته،عاش غيفارا حدثا سوف يكون له تأثير حاسم على مساره الفكري والإيديولوجي.فتحت ستار “التصدّي للمرتزقة”،قام الجيش الأمريكي بالتدخّل في غواتيمالا وذلك بهدف إسقاط نظام الجنرال أربنز المعتدل،والتقدمي لتنصيب نظام استبدادي موال لواشنطن. عندئذ اقتنع غيفارا بإنّ العنف الثوري هو الأداة الضروريّة لمواجهة العنف الإمبريالي.لذا لم يتردّد في المشاركة في المقاومة الشعبيّة ضدّ التدخّل الأمريكي.فلمّا انهزمت حركة المقاومة،لجأ غيفارا الى المكسيك.وهناك التقى يفريق ثوريّ من كوبا يقوده شاب يدعى فيدال كاسترو.وعقب مناقشات حامية وطويلة،قرّر غيفارا الإنضمام الى الفريق الكوبي ،مرتبطا بعلاقة صداقة حميمة مع قائده.وفي البداية عمل غيفارا طبيبا .لكن في عام 1958،عيّن من قبل فيدال كاسترو قائدا لطابور الهجوم على نظام باتيستا.وقد أكسبه الإنتصار الذي تحقّق بفضل مهارته القياديّة في معركة”سانتا كلارا” الحاسمة،شهرة بين الثوريين الكوبيين.وبعد انتصار الثورة الكوبية في أواخر الخمسينات من القرن الماضي،عيّن غيفارا من قبل نظام فيدال كاسترو سفيرا مُنتدبا لدى الهيئات الدولية،وقائدا للميليشيا التي كانت مهمتها التصدي للمجموعات المعادية للثورة،والمدعومة بقوة من قبل الولايات المتحدة الأمريكيّة.وفي مطلع الستينات عيّن رئيسا للبنك المركزي،ومسؤولا عن التخطيط ،ثم وزيرا للصناعة.وبسبب هذه المناصب الرفيعة التي أسندت اليه من قبل نظام فيدال كاسترو،شنّت الصحافة الأمريكيّة هجومات عنيفة على تشي غيفارا واصفة ايّاه ب”العميل الشيوعي العالمي”.وفي عام 1962 كتبت مجلة “تايم” واسعة الإنتشار تقول:”فيديل كاسترو هو القلب والروح والصوت والوجه الملتحي لكوبا الحالية.وراوول “أخو كاسترو” هو القبضة التي تمسك بخنجر الثورة.أمّا غيفارا فهو دماغها.وهو الأكثرخطورة وإثارة”.
غير أن تشي غيفارا لم يكن شيوعيّا بيروقراطيّا، بل كان رجل فعل.وكان يرى أن الثوريّ الحقيقيّ لا بدّ أن يكون في بحث دائم عن الحقيقة.ولعلّ ذلك يعود الى ان قراءاته لم تكن تقتصر على الأدبيات الشيوعيّة،بل كانت تتعدّاها الى مجالات أخرى مختلفة ومتعدّدة.وكان يردّد دائما بان ماركس لم يكن معصوما من الخطأ.ومرة كتب يقول:”يمكن للمرء أن يكون ماركسيّا تماما مثلما أن يكون نيوتونيا(نسبة الى نيوتن) في الفيزياء،وباستوريّا(نسبة الى باستور) في البيولوجيا،مع الأخذ بعين الإعتبار أنه في حال نتجت عن الظواهر الجديدة، مفاههيم جديدة،فإن المفاهيم السابقة تحتفظ بقسطها من الحقيقة”.
وفي عام 1961 سعت الولايات المتحدة الأمريكيّة الى الإطاحة بنظام فيدال كاسترو مُستخدمة في ذلك وسيلتها الفضلى:التدخّل العسكري السّافر .غير أن هذا التدخّل مني بقشل ذريع في معركة “خليج الخنازير”.عندئذ ازداد تشي غيفرا تشبثا بالعنف الثوري طارحا نظريّة “الثورة العالميّة”ضدّ القوى الإمبرياليّة.وفي المناقشات التي أثارها مع فيدال كاسترو، ومع رفاقه الكوبيين حاول أن يبيّن ان الثورات المعزولة ليس بإمكانها ان تنتصر.لذا لابدّ من فكّ الحصار المضروب عليها من قبل القوى المضادة لها.بالإضافة الى كلّ هذا،أضحت رؤية تشي غيفرا الى الإشتراكيّة متناقضة الى حدّ كبير مع الرؤى الإشتراكية في جلّ البلدان الشيوعيّة.وخلال الزيارات التي أدّاها الى البعض من تلك البلدان لاحظ ما أصبح يسمّيه ب”التزمّت الإشتراكي”.لذا لم يتردّد في انتقاد السياسات المتبعة من قبل العديد من الأنظمة الشوعية .ولم يكتف بذلك، بل شنّ هجوما عنيفا لا على الولايات المتحدة فقط، بل على الاتحاد السوفياتي متهما الشيوعيين الروس بالتقاعس في مساندة الثورات المعادية للإمبريالية في آسيا ،وافريقيا. وقد فجر ذلك الخطاب خلافا صامتا بين تشي غيفارا ورفيقه فيدال كاستور الذي كان لم يكن يرغب في فقدان علاقته بموسكو في تلك الظروف الصعبة والعسيرة التي كانت تمر بها الثورة الكوبية خصوصا على المستوى الإقتصادي. ومن المؤكد أن القادة السوفيات اغتاضوا من ذلك الخطاب فأرسلوا إلى فيدال كاسترو يطلبون منه لجم رفيقه المكابر والعنيد. وتشير العديد من التقارير إلى أن موسكو أرسلت عميلا من ال”كي جي بي” لمراقبة حركات وسكنات الثائر الأرجنتيني. إلاّ أن تشي غيفرا زاد في العناد والتمرد. وراغبا في الاطلاع على أحوال القارة الإفريقية، زار تانزانيا،والسودان، والداهومي،ومصر حيث استقبله الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وفي بداية عام 1965، أدّى تشي غيفارا زيارة إلى الصين التي كانت في خلاف حاد مع الإتحاد السوفياتي، ليحظى باستقبال رسمي من قبل شوان لاي ، والزعيم ماو تسي تونغ. ومرة أخرى يغيض الثائر الأرجنتيني رفيقه فيدال كاسترو ، وقادة الكرملين. مع ذلك، ظل ممعنا في تحدياته. وفي خطاب ألقاه في ندوة ثقافية للتضامن آآسيوي-الإفريقي إنتظمت في الجزائر في شتاء عام 1965،طرح تشي غيفارا جملة من الأفكار المتصلة بنظريته الثوريّة ،مطالبا الشعوب الفقيرة بأن تتوحد وتتضامن لواجهة “الرساميل الإحتكاريّة في العالم”، مركّزا على ضرورة بعث “أممميّة بروليتاريّة” جديدة.وفي نفس الخطاب حدّد تشي غيفارا موقعين أساسيين للنضال ضدّ الإمبرياليّة:فيتنام في القارة الآسيويّة،والكونغو في القارة الإفريقيّة.كما شدّد على ضرورة بناء ما سمّاه ب”الإنسان الجديد” قائلا:”حتى ال اليوم لم نفهم أنّ خلق انسان جديد لا يكون إنسان القرن التاسع عشر،ولاإنسان قرننا المنحط والفاسد. وإنما إنسان القرن الواحد والعشرين حتى ولو لم يكن ذلك الآن غير مجرّد طموح ذاتيّ ،وليس نمطا ثابتا(…)فالثورات التي تنشد الانسان الجديد بصوت الشعب الحقيقي تحقّق مبتغاها”.
بعد عودته من الجزائر،تخلّى تشي غيفارا عن جميع مناصبه الرسميّة .وفي رسالة بعث بها الى فيدال كاسترو،كتب يقول:”لقد عشت أيّاما رائعة،وتذوّقت الى جانبك فخر الإنتماء الى شعبنا في الأيّام الوضّاءة والمحزنة لأزمة “الكاراييبي”(أزمة التدخل الأمريكي في كوبا المشار اليه سابقا).من النادر أن يلمع رجل دولة بالمستوى الرفيع الذي لمعت به أنت في تلك الأيّام”.وفي نهاية الرسالة،أفصح تشي غيفارا عن مشروعه الثوريّ الجديد قائلا:”ثمّة أراض اخرى من هذا العالم تطالب بمساهمة جهودي المتواضعة في الثورة.يمكنني ان أقوم بما هو ممنوع عليك القيام به وأنت على رأس كوبا.وها قد حانت ساعة افتراقنا”.وللشاعرالشيلي بابلو نيروداـ كتب تشي غيفارا يقول: “الحلارب…الحرب…نحن دائما ضدذ الحرب. لكن عندما نقوم بها، نحن نشعر أنه ليس باستطاعتنا أن نعيش من دونها. وفي كل لحظة نحن نبتغي اشعالها من جديد”.
وفيّا لما اعلن عنه في الجزائر،انطلق تشي غيفارا الى الكونغو عازما على اشعال نار الثورة فيها.غير أن خيبته كانت مريرة.فالثوار الأفارقة الذين التقى بهم ن على ضفاف بحيرة “تنغانيك” على الحدود مع الزائير، والذين كان يتزعمهم لوران كابيلا،كانوا على أسوا حال من ناحية التنظيم،ومن ناحية التكوين الفكري والعقائدي.وكانوا يعتقدون ان الثورة تقتصر على “الإستمتاع بالكحول وبالنساء الجميلات”.وأثناء المواجهات مع القوى المعادية كانوا يفضّلون البقاء في المؤخّرة،أو هو يفرّون الى الكهوف.لذا كان حكم غيفارا قاسيا عليهم.فقد لقّب لوران كابيلا ي”اللص المسلّح”،ناعتا أصحابه بأقبح وأشنع النعوت.ولمّا تيقّن من فشل مهمته الثوريّة ،إنطلق غيفارا الى بوليفيا لمواجهة الجنود الأمريكيين الذين أرسلوا لمعاضدة”القنّاصة” البوليفيين.وقد رفض الحزب الشيوعي أن يقدّم له أيّة مساعدة.وكانت الضربة الأولى التي تلقّاها الثوريّون بقيادة تشي غيفارا ،اعتقال المثقف الفرنسي الماركسي ريجيس دوبريه الذي دافع عن نفسه امام المحكمة بشجاعة مذهلة.أما الضربة الثانية فقد تمثّلت في إنقطاع الإتصالات مع الخارج . وفي الثاني من شهر اكتوبر -تشرين الثاني 1967،أصيب تشي غيفارا بجرح بليغ في ساقه،فتمّ اعتقاله بكامل اليسر والسهولة من قبل القوات النظاميّة.وفي اليوم التالي أعدم هو وثلاثة من رفاقه بأمر من الجنرال باريانتوس بعد استشارة السفير الأمريكي قي العاصمة البوليفية لاباز.وقد وصف”التشي” مغامرته البوليفية في مذكراته التي شرع في كتابتها في شهر نوفمبر-تشرين الثاني 1966،وأنهاها في السابع من شهر اكتوبر -تشرين أاأول 1967،أي قبل يومين فقط من اعدامه.وفي أغلب الكتب التي تحدثت عن سيرته النضاليه ،نقرأ ما يلي:”قبل اعدامه يقليل،سأل الضابط تشي غيفارا :
-في ما تفكر؟
فأجاب:في الأبديّة!
روبما لذلك لا يزال غيفارا حيّا في القلوب،ولا يزال حاضرا في ذاكرة الحالمين بالثورات التي تضع حدّا للمظالم،ولعذاب الإنسان على الأرض!
نقلاعن ایلاف