الرياض لا تقارب العراق لتحريره من السطوة الإيرانية، بل ربما تطل عليه، في هذا التوقيت، لأنه تحت السطوة الإيرانية.
أسالت زيارة الزعيم العراقي السيد مقتدى الصدر إلى المملكة العربية السعودية حبرا كثيرا يفوق ذلك الذي كُتب في التعليق على زيارات مسؤولين عراقيين رفيعي المستوى زاروا البلد والتقوا بمسؤوليه. قيل في ذلك إن الصدر يمثل في عباءته وما يحتله داخل المشهد السياسي العراقي ما يجعل من الحدث مفترقا في المزاجين العراقي والسعودي، ذلك أن أصحاب المقامات الرسمية تنحصر زياراتهم بما هو بروتوكولي في الشكل والذي قد لا يكسر القشور لسبر لبّ المضامين.
قبل زيارة الصدر وقبل الزيارات المرتقبة لزعماء عراقيين آخرين، زار رئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي الرياض في يونيو الماضي، بما اعتبر تطورا واعدا في علاقات البلدين، وزار وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي في منتصف يوليو الماضي السعودية مناقشا مع نظيره ومسؤولي البلد شؤون الأمن وملفاته. ولئن يمثّل العبادي حالة داخل حزب الدعوة مناكفة لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي مع ما يمثله من دعم وتأييد إيرانيين، فإن الأعرجي لا يمثل أي مناكفة للسطوة الإيرانية، بل إنه قريب من طهران وواحد من رعاة ميليشيات الحشد الشعبي التي لم توفّر الرياض مناسبة لانتقادها وإدانة سلوكها، ناهيك عن إعجابه وانبهاره بالجنرال الإيراني الشهير قاسم سليماني.
غير أن ما هو أهم ويعتبر مفصليا ومفاجئا في سياق علاقة الرياض ببغداد منذ اعتلاء الملك سلمان بن عبدالعزيز عرش بلاده، هو تلك الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في فبراير الماضي. وعلى ضوء ذلك الحدث يمكن فهم ما تلاه من أحداث تفتح صفحات جديدة غير مفهومة في طبيعة المقاربة الجديدة التي تتقدم بها السعودية باتجاه العراق.
تبدو زيارات المسؤولين العراقيين أنها تستجيب لانفتاح الرياض دون أن تجيب على هواجسها.
وتبدو السعودية في مسعاها الحديث أنها لا تستثمر في أوهام تتجاهل طبيعة وهوية النظام السياسي العراقي، بل إنها تتعامل مع قماشة طبقة سياسية تعمل وفق الأمر الواقع الإيراني داخل العراق، فيما جزء كبير من تيارات العراق، بشيعته وسنته وأكراده، يحجُّون إلى طهران بصفتها عاصمة القرار العراقي دون منازع منذ غزو عام 2003.
لم يصدر شيء كثير يفصح عن فحوى اللقاء الذي جمع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالسيد مقتدى الصدر والوفد المرافق له. وربما أن الصورة التي نشرتها وسائل الإعلام كافية لإعلان نمط آخر في شكل تعاطي الرياض مع ساسة بغداد، مع العلم أن صورة أخرى كانت جمعت الصدر بالعاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز عام 2006 دون أن تفضي إلى تآلـف حقيقي أصيل يمثـل اختراقا سعوديا في قلب الصدر وفي قلب العراق.
قد يبدو أن الرياض لا تروم جذب ولاء العراقيين للمحيط العربي بدل ذلك باتجاه إيران. وقد يبدو أيضا أن الرياض مدركة لمآلات غيابها وغياب العرب عن “العراق الجديد”، وبالتالي مدركة لمدى النفوذ الذي بسطته إيران جراء ذلك الفراغ الفاضح الذي أتاحه العرب وأمعنوا به تجاهلا للعراق. وبالتالي فإن السعودية، ووفق روحية مؤسسة الحكم في عهد الملك سلمان وبراغماتية أدواتها، تتعامل مع طبيعة الجار العراقي بصفته أمرا واقعا وجب الاعتراف به كقاعدة لأي خارطة طريق جديدة بين الرياض وبغداد.
لئن كانت السياسة هي فن الممكن، فإن الرياض تتلقف المُتاح وتجتهد في رسم قواعد جديدة على خلفية صراع علني بين واشنطن وطهران على النفوذ ومساحاته في العراق وسوريا، والممرات التي تصل العاصمة الإيرانية ببيروت
قد لا يغيب عن أبجدية العاملين في شؤون الجغرافيا السياسية أن الصراع الجاري منذ عقود بين السعودية وإيران، والذي يأخذ أشكالا وأنماطا مختلفة في ميادينه من اليمن إلى لبنان، تغافل من الجانب السعودي عن حقيقة أن لا مواجهة حقيقية لإيران وأن لا نجاعة لأي جهد يقف سدا منيعا ومانعا للاختراق الإيراني للمنطقة، إلا من خلال العراق. فهذه ضريبة الجغرافيا التي أدركها العرب سابقا، فراحوا يدعمون نظام العراق السابق في حربه الشهيرة ضد إيران.
في ذلك أن الرياض لا تقارب العراق لتحريره من السطوة الإيرانية، بل ربما تطل عليه، في هذا التوقيت، لأنه تحت السطوة الإيرانية.
يعرف القادة السعوديون أن مداولاتهم مع المسؤولين العراقيين، الرسميين والحزبيين، ليست مداولات سرية تجري داخل جدران سعودية آمنة، بل هي شفافة، تكاد تكون علنية، تصل تقاريرها بانسياب إلى غرف الحكم الكبرى في طهران. وأغلب الظن، أن السعودية التي لا تخفي خصومتها لإيران، تطلق من خلال الميدان العراقي إستراتيجية مفادها الإعلان بانتهاء حقبة الفراغ العربي في هذا البلد، وبأن السعوديين والخليجيين أولا، ثم العرب من بعدهم، يعيدون الاعتبار لعراقهم بصفته قاعدة أصيلة من قواعد الأمن الإستراتيجي للمنطقة برمتها.
قد تجوز ملاحظة أنه، ورغم فلتان أبواق عراقية، توالي إيران، منتقدة زيارة الصدر وما قبلها وما سيليها، فإن طهران قد لا يزعجها أو يقلقها “حجيج” قادة العراق إلى السعودية، خصوصا وأن ليس في مداولات الغرف المغلقة ما لن تعرفه. ثم إن إيران التي “يشكو” وزير خارجيتها محمد جواد ظريف من امتناع السعودية عن الحوار مع بلاده، قد تجد في ذلك الوصل العراقي السعودي ما يمكن أن يؤسس لقواعد جديدة في تعايش وتناكف الرياض وطهران، ذلك أن الحاكم الإيراني بات، منذ عاصفة الحزم في اليمن وتبدل مزاج البيت الأبيض و“تفاقم” تفاهمات واشنطن وموسكو في سـوريا… إلخ، مدركا لمحدودية سقوفه ولتدهور مساحات نفوذه ولارتباك بنيوي في طموحاته من أجل قيام “إمبراطورية إيرانية عاصمتها بغداد”.
لا يهم الرياض أن يأتيها ساسة العراق نكاية بالوصاية الإيرانية، أو تصفية لحسابات ظرفية بين ذلك الزعيم وطهران. وتدرك السعودية أن نسج العلاقات على قواعد كيدية مصيره فشل حين تُسوّى أمور المتخاصمين وتنتفي حوافز النكايات. وإذا ما أرادت السعودية بناء علاقات جديدة مع العراق، فذلك على أساس يجعل من تلك العلاقات مصلحة عراقية لكافة العراقيين، وليس لحساب فريق من العراقيين. غير أن سياسات الدول الخارجية لا تقوم على معايير خيرية بل على معايير المصالح، وعليه فإن للرياض إستراتيجية كان عبر عنها وزير الخارجية عادل الجبير في زيارته المفاجئة في فبراير الماضي “علاقات مميزة ورغبة مشتركة لمكافحة الإرهاب، ووقوف الرياض على مسافة واحدة من جميع المكونات العراقية”.
لا يغيب عن بال المراقب أن مزاجا دوليا أميركيا أراد غداة غزو العراق عام 2003 إبعاد السعودية والعرب عن أبواب العراق. كانت إدارة الرئيس جورج بوش الابن تنفخ في العالم نزقها غداة اعتداءات 11 سبتمبر 2001، مقصية أهل المنطقة عن أي فعل، مرحّبة بما ينتجه ذلك من انسياب إيراني داخل العراق.
ولا يغيب عن بال المراقب أن مزاجا دوليا أميركيا آخرا قد برز في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عمل على تهيئة الظروف للتوصل إلى الاتفاق النووي الشهير، بما في ذلك عدم استفزاز طهران في ميادين نفوذها، بما في ذلك العراق.
وعليه فإن الجهد السعودي الراهن يناور داخل مشهد دولي آخر بات يتيح تطورا في علاقات الرياض ببغداد. ولئن كانت السياسة هي فن الممكن، فإن الرياض تتلقف المُتاح وتجتهد في رسم قواعد جديدة على خلفية صراع علني بين واشنطن وطهران على النفوذ ومساحاته في العراق وسوريا، والممرات التي تصل العاصمة الإيرانية ببيروت.
وعليه فإن مداولات السعوديين مع ساسة العراق تغرف من زاد يسمح للعراق نفسه بإعادة التموضع على نسق يختلف عن مزاج 2003، كما يسمح للسعودية بتموضع آخر يجعل من الرياض عاصمة فاعلة في يوميات هذا العراق الذي يتغير. وربما في المصافحة العاجلة في تركيا بين وزيري خارجية السعودية وإيران ما يلـمّح إلى تجاوز البلدين حساسيات الشكل، وما يفسّر “مغامرة” الرياض الجديدة في العراق.
نقلا عن العرب