تقترب السعودية من ورشة روسيا السياسية بعد تلك العسكرية، وهو اقتراب بات ضرورة لأمن المملكة كما لحيوية سياستها الخارجية.
تحفرُ روسيا، وروسيا فقط، مشهدٓ سوريا المقبل. تكاد عواصم العالم تختفي عن الخارطة السورية إلا من مواقف باهتة ووعود بمبادرات كتلك التي تعدها باريس برعاية رئيسها إيمانويل ماكرون لإطلاق “مجموعة اتصال” حول سوريا. والمسألة تجري وفق قواعد الحفر، بحيث تفرض أمرا واقعاً يُبنى عليه مقتضاه.
ولأن أمر سوريا روسي بعد أن تعفف المجتمع الدولي عن التورط بموقف أخلاقي موحد ينهي مأساة السوريين، فإن موسكو تتولى المهمة بإصرار وإخلاص ومهارة وحنكة وأناة، بحيث أنها تحتكر الأفكار الخلاقة التي أطلت من آستانا، والتي لا شك ستكون وراء ما يُعد حالياً للعبور إلى انضاج جنيف وتحضيره لخواتيم يستسلم لها العالم.
يغيب الخيار العسكري عن خطط كافة فرقاء الصراع في سوريا. وغياب الخيار كمآل وحيد لنهاية مأساة السوريين لا يوقف أعمال الحرب التي تُسقط قتلى وتقذف بالسكان إلى خارج أحيائهم. في ذلك تناقض لم يعد غريباً عن سريالية العبث الذي يفتك بالبلاد منذ أكثر من 6 سنوات. يغيب الخيار العسكري دون أن يؤدي ذلك إلى وقف غارات نظام دمشق وحراك قوات الحرس الثوري والميليشيات التابعة لإيران عن جهات سوريا ومناطقها. وكأن في تلك النيران “المناكفة” اللا منصاعة للعزف الروسي، ما يراد معاندة توافقات ليل تجري عادة، كما يحدثنا التاريخ، داخل غرف خلفية لعواصم القرار الكبرى.
تفرض موسكو أمراً واقعاً ميدانيا جديداً على وقع قوة نيران هائلة نفختها منذ تدخلها العسكري المباشر في 30 سبتمبر 2015. تفرض روسيا رؤاها السورية آخذة بالاعتبار مسلّمات لا تهملها ولا تقلل من حقيقتها.
تبدو موسكو بقيادة فلاديمير بوتين أكثر حصافة وحكمة من موسكو التي دفعت بقواتها بغرور ومكابرة لاحتلال أفغانستان في ديسمبر 1979. يطل رجل الكرملين على العالم مدركاً لثمار إنجازه السوري، بحيث بات اتفاقه مع دمشق يسمح لقواته بالحضور داخل سوريا لحوالي نصف قرن مقبل.
يتأمل الرجل مصادقة دول العالم كما دول الإقليم، ولو ضمنياً، على شرعية الوجود الروسي في سوريا كما على منطقية وجودها المقبل في هذا البلد، وهو الذي لم يحظ باعتراف دولي بضمه شبه جزيرة القرم إلى بلاده. وعلى هذا تعكف موسكو على ترتيب الوضع السوري هذه الأيام على مقاس ما ترومه روسيا للعقود الخمس المقبلة.
تتأسس المقاربة الروسية على تقسيم المأزق السوري إلى ملفين قد لا يلتقيان: ملف عسكري يتكلم لغة الخرائط ووقف إطلاق النار وفتح المعابر وادخال المساعدات ونشر قوات المراقبة..إلخ. وملف سياسي يدفع بالمنصات والاجتماعات الخلفية ومداولات الدبلوماسيين، ودائما وفق الاعتراف بـ “جنيف” وبمواهب مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا. ومفارقة الأمر أن مساريْ تلك المقاربة يسيران على خطيْن متوازيين لا يلتقيان إلا وفق ما يناسب أجندة موسكو، ولا يتقدمان بنفس السرعة، إلا حين تسمح بذلك توقيتات موسكو.
وتكمن عبقرية الأداء الروسي الذي لا بد من الإعتراف بها، في قدرة الإدارة الروسية على التقدم بإيقاعات مستمرة دون الاصطدام مع من يمكن اعتبارهم خصوماً، ودون إثارة شكوك لدى معسكر الحلفاء. وفي ذلك أن روسيا تعتمد على إمكانياتها العسكرية والدبلوماسية وتستفيد من قدرات كافة القوى المتوفرة داخل الميدان السوري، وفق فلسفة “أمطري أيتها الغيمة فخراجك عندي”.
تتعايش إدارة فلاديمير بوتين مع حضور أميركي مضطرد داخل سوريا تسارع حجمه منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. بكلمة أخرى احتكرت موسكو الامساك بورقة سوريا بتواطؤ كامل مع واشنطن تحت مسوّغ غياب الولايات المتحدة الميداني عن سوريا. وما زالت موسكو تحتكر “الملف السوري” برعاية هذه المرة من الحضور الأميركي الفاعل في سوريا. فلئن ربطت واشنطن همّتها بالحرب ضد تنظيم داعش في الرقة وامتداداتها، فإن موسكو تبدو معنية بالملف الأصل السابق على ظهور تنظيم البغدادي واللاحق على اختفائه المقبل.
ولا عجب هنا من أن حلقات الود ّالروسي الأميركي قائمة في سوريا لا تربكها حزمة العقوبات الأميركية الجديدة ضد موسكو. ولا عجب من أن تنقل “نيوزويك” الأميركية عن ريموند توماس رئيس قيادة العمليات الخاصة في الجيش الأميركي قوله إن شرعية الوجود العسكري الروسي في سوريا بطلب من دمشق، تمنح موسكو نفوذا يخولها حتى القدرة على طرد القوات الأميركية من سوريا. فالرجل رأى في مؤتمر أسبين الأمني بولاية كولورادو الأميركية، أن “روسيا حصلت على موطئ قدم لها في سوريا أكثر مصداقية من الولايات المتحدة، وقد تستخدم هذا النفوذ لطرد وإخراج القوات الأميركية من هناك.”
تطابق تصريحات توماس استراتيجية واشنطن في سوريا. فالولايات المتحدة معنية بكل ما من شأنه مكافحة “داعش” وغير معنية بمآلات وجود قواتها على موازين القوى الداخلية في سوريا. وتذهب واشنطن بعيدا في تلك الاستراتيجية التي تطبق بدقة الجوانب السورية لـ “عقيدة أوباما”، بحيث أنها تستغني عن الفصائل التي ما زالت أولويتها مقاتلة نظام دمشق وتسحب أسلحتها من مخازنهم.
تعرف موسكو بدقة أنها ما زالت سيدة الموقف في سوريا. تعترف واشنطن بشرعيتهاالسورية، وتقارب وعواصم أوروبا وجهاتها، وتحترم وعواصم المنطقة الخطوط التي يرسمها الخطاطون الروس دون أي عزم أو جهد أو قدرة على سلوك خطوط أخرى. والأحرى بنا أن نقرأ ظهور “مناطق تخفيف التوتر” وفق الرسم الروسي فقط. وحري استنتاج أن التشاور مع الشريك الأميركي أو الإسرائيلي أو الأردني أو التركي أو الإيراني يجري لتدعيم الخرائط الروسية ولحاجة موسكو للاعبين آخرين بما في ذلك شريك مصري في إخراج منطقة تخفيف التوتر الثالثة شمال حمص.
ولئن تعبّد روسيا العلامات المفصلية لسوريا المستقبل، فإنها، وعلى الرغم من درايتها بتفاصيل الملف السوري، فإنها ذاهبة للاحتكاك قريبا بأجندتي ْودمشق وطهران. والكلام عن الاحتكاك لا يفضي حكماً إلى الصدام، ذلك أن العاصمتين تسعيان لتحسين شروط الشراكة مع “القٓدٓر” الروسي، إما من خلال فرض أمر واقع ميداني (القلمون وجرود عرسال مثلا)، أو من خلال تخفيف أكلاف الفاتورة التي عليهما تسديدها مقابل خدمات موسكو في حماية نظام دمشق.
ووفق الأمر الروسي لم يعد مصير الأسد على طاولة البحث. بات على كافة الفرقاء القبول بتلك المسلّمة كقاعدة للانطلاق نحو مداخل أخرى وفق القرار الاممي رقم 254. والمسألة في هذا الصدد لم تعد حكراً على فلاديمير بوتين، فقد سبق لماكرون الفرنسي وترامب الاميركي أن عبروا عن الأمر بمفردات وصيّغ مختلفة تنتهي إلى نفس الموقف: الأسد ليس أولوية للصراع في سوريا. وعدم بحث امر رحيل الأسد لا يعني أن رحيله مستحيلا، فذلك خاضع لمواقيت التفاهمات الكبرى.
وفق ذلك المشهد تأتي دعوة الرياض للهيئة العليا للمفاوضات لعقد مؤتمر جديد موسع تشارك به “نخبة مختارة من القامات السورية الوطنية ونشطاء الثورة”، وفق تعبير بيان صادر عن الهيئة. في ذلك أن الجهد السعودي يأتي ليلاقي الرؤية الروسية والتي باتت رؤية دولية.
وما يهم السعودية، وهو ما كان همها دائماً، ليس طبيعة النظام السوري، بل سطوة إيران وهيمنتها على هذا النظام. وقد تجد السعودية في ظهور مناطق خفض التوتر وفي أبجديات روسيا في سوريا ما سينقل سوريا من تحت سقف طهران نحو رعايات متعددة الجنسيات تقودها موسكو.
ربما يجب التذكير أن السعودية لم تعاد الورش الروسية في سوريا ولم تعبئ ضدها، لا بل هي من واكب ورعى إعداد المعارضة للخروج بوفد موحد من خلال هيئة المفاوضات العليا. وما دعوة الرياض الجديدة لإدخال تحديثات على ذلك الوفد لا تستبعد منصتي القاهرة والرياض وفصائل عسكرية قبلية اخرى، لا سيما تيار الغد بقيادة أحمد الجربا، إلا مشهد آخر تقترب به السعودية من ورشة روسيا السياسية بعد تلك العسكرية، وهو اقتراب بات ضرورة لأمن المملكة كما لحيوية سياستها الخارجية عشية زيارة مرتقبة للعاهل السعودي إلى روسيا.
میدل ایست اونلاین