قال الأولون: وأنت مسافر في الصحراء، أو تغرس مضاربك وسط مفازاتها، عليك أن تنام بعين واحدة، فالفراغ من حولك هو جيش يتربص بك، يتحول في أي شقفة من الزمن إلى قوة ضاربة تهاجمك بأيدٍ لن تراها، تستولي على عقلك وتلقي بك في التيه. إنه جيش الجن، الذي يصنع خرائط الصحراء التي لا يراها البشر.
أما الجيش الحقيقي الذي ستراه ويراك، رجال مسلحون بالسيوف والرماح والسهام المسمومة، سيأخذون عنوة أنعامك من الإبل والغنم ولن يتركوا ما في خيامك من مال. وأرواح قومك هي الهدف الأول في قائمة الغنائم.
الآخر… الآخر هو العدو الدائم الذي لا همّ له إلا التربص بك وإعداد العدة لغزوك. أنت في المقابل تفكر وتخطط بنفس المنهج وبنفس القوة، كل آخر هو عدوك، سيغزوك يوماً، وعليك أن تعد العدة لنفس الهدف، الاستيلاء على ما عنده، أو دفع هجومه الذي يريد الاستيلاء على ما عندك.
تلك هي خريطة العقل ونمط الحياة في تيه الفراغ وقانون القوة. لا يتوقف ذلك على العرب بل هو قانون الحياة في كل صحارى الدنيا القديمة في الهند والصين والصحراء الكبرى وغيرها من فجاج أفريقيا.
في أوروبا، كانت اللعبة أخطر وأكبر. الاستيلاء ليس على الأنعام وقطف الرؤوس التي تحميها. الأرض، ما بها ومن بها هي الغنيمة. أوطان تُضم إلى أخرى بقوة السلاح، تحويل أهلها إلى أشياء، يستعبد كل شيء؛ الناس والأرض. كانت الحروب الأوروبية هي الأطول على امتداد التاريخ. (الإمبراطورية) هي تاج الغنيمة. تشكيل شامل لكيانات تلدها أرحام القوة. الإمبراطورية، هي فكرة تقوم على (غنيمة القوة)، من غزو يقوده قطّاع طرق للاستيلاء على ما عند الآخر في مفازات الصحراء، إلى غنيمة كل الآخر. سيطرت هذه القاعدة على مسار التاريخ لقرون، واتسعت لتشمل كل الدنيا. قامت إمبراطوريات في آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، وبعدها الشمالية. لا حدود بين البلدان، لا أرض لقوم أو أمة. الدنيا كلها كيان مفتوح لمن غلب. ليس هناك من يَشتكي أو من يُشتكى إليه.
معاهدة أو صلح «وستفاليا» التي وقعت سنة 1648 أنهت حربي الثلاثين والثمانين عاماً في أوروبا، أرسي مبدأ سيادة الدول لأول مرة في التاريخ، كانت تلك المعاهدة، نقلة تاريخية في العقل البشري، وإن عنت أوروبا فقط وليس العالم كله. هل أقفلت تلك المعاهدة سياسة الغلبة والغنيمة؟ لم تحقق ذلك بصورة كاملة وشاملة. الاستعمار الأوروبي الذي صاحب الثورة الصناعية في أوروبا أنتج قواعد جديدة وأخلاقاً سياسية مبتدعة.
الآخر، صار له مفهوم جديد، وهو التفضل على الشعوب البدائية المتخلفة بالتصدق عليها ببعض من محصول الحضارة الأوروبية الجديدة عبر الاستعمار. طبعاً ليس الحرية وقوة التنوير والتعليم والديمقراطية وتسكين الصناعة في البلدان المستعمَرة.
قرون قضتها أغلب شعوب العالم تحت سيطرة الاستعمار الأوروبي. سيطرة شعب على آخر تتطلب مهارة سياسية وإدارية مبتكرة. القوة الغاشمة، والقوة الناعمة، سيطرة بريطانيا على الهند وعلى غيرها من الشعوب التي يشكل سكانها مئات الأضعاف من الشعب البريطاني تمت بجيش القوتين، الغاشمة والناعمة.
شعوب كثيرة أمضت قروناً تحت الأنظمة الإمبراطورية، نبتت في أرض عقلها فكرة القوي الذي يمتلك من القوة العسكرية والدهاء السياسي ما لا طاقة لها به، بل إن ذلك ضرب من ضروب القدر. قوة سرية لها من الطلاسم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر. عنوان تلك القوة السحرية هو (المؤامرة).
منذ بداية القرن العشرين، تغير العالم (الأول – أوروبا) في كل شيء. العقل، هو القوة الغاشمة والناعمة. العلم، والإدارة الحديثة التي غزت كل مفاصل وأطراف الحياة، لا قرار إلا بعد دراسة لها إمامان، العلم والحرية.
امتلك أدولف هتلر، العلم والقوة، لكن غياب الحرية كان الوحش الذي ألقى بالمجتمع الألماني في جب الغيبوبة. لم تحصد ألمانيا من طوفان عرقها ودمها إلا الجثث والدمار.
من تآمر على ألمانيا وقادها إلى الهلاك الشامل؟!
بريطانيا قاومت جنون هتلر بقوة العقل والحرية. ذهب تشمبرلين رئيس وزراء بريطانيا إلى ميونيخ، رافعاً قبعته لهتلر وبها مشروع سياسة (التهدئة)، تقبل بموجبها ضم ألمانيا للنمسا وقضمها لتشيكوسلوفاكيا، على أن يقف حيث هو ولا يتقدم بعد ذلك في أرض أوروبية. وافق هتلر مبتسما معتقداً أن مخططه التآمري قد نجح وضحك على الدهاء البريطاني. اندفع الفوهرر نحو حفرة جهنم، حفرة الكارثة عليه وعلى ألمانيا والبشرية كلها. أنزلت بريطانيا إلى حلبة الصراع عقلاً جديداً، يمتلك خلفية عسكرية، وخيالاً سياسياً مبدعاً، وتفوقاً أدبياً رفعه إلى مرتبة الفوز بجائزة نوبل في الأدب، إنه ونستون تشرشل.
تسلح القادم الجديد بقوة العقل والحرية. البرلمان البريطاني بمجلسيه، العموم واللوردات في قمة قوته، حرية الصحافة، وسلطة القضاء، مقدسات في مستوى قداسة الوطن.
خطط تشرشل الذي كان يقف وحيداً ضد هتلر الذي التهم فرنسا في أيام معدودة، وقبلها الأراضي الواطئة، خطط لتكوين جبهة عالمية تقف مع بريطانيا ضد قوة وجنون هتلر.
بعد استيلاء هتلر على فرنسا، تحرك الخائفون والطامعون.
الاتحاد السوفياتي الخائف وقّع اتفاقية عدم اعتداء مع هتلر، وقدم له الحديد والنفط طعاماً لآلته الحربية. وأرسل ستالين التهنئة إلى هتلر بعد احتلاله لفرنسا.
أما الطامع، الديكتاتور الآخر بينيتو موسوليني دوتشي إيطاليا فقد ذهب أكثر من ذلك، الانضمام إلى هتلر والتحالف معه في المحور. كان موسوليني يحلم بإقامة إمبراطورية أوسع من التي سبق وأعلنها بعد احتلال شرق أفريقيا. من ليبيا التي يحتلها، سيتحرك بعد هزيمة بريطانيا الوشيكة كما اعتقد سيتجه إلى الاستيلاء على مصر التي هي تحت سلطة بريطانيا، ليمتد إلى السودان لربطها بإثيوبيا وإريتريا والصومال. وغرباً من ليبيا إلى تونس التي تحتلها فرنسا المهزومة والجزائر أيضاً إلى المغرب، حيث ستكون حدود إمبراطوريته الأطلسية. وكانت نهاية موسوليني بتعليقه من قدميه مقتولاً… فمن تآمر على إيطاليا وموسوليني؟
لقد جرّم كل الأحزاب سوى حزبه الفاشي، ألقى بالمفكرين في السجون، علق لهم المشانق وقدم لهم وجبات الرصاص.
نجح تشرشل بخطة الداهية الديمقراطي أن تأتيه أميركا لتقاتل معه. أما الاتحاد السوفياتي فقد وفر عليه هتلر الجهد لضمه إلى الحلفاء. (المؤامرة)، بتعريفها السوي، هي التدبير والتخطيط في بيئة سياسية، لها إمامان، العقل والحرية. نحن نسخر من صدام حسين مرتين، عندما نقول: إن السفيرة الأميركية ضحكت عليه في مؤامرة استدرجته إلى غزو الكويت. فإما أن يكون ساذجاً، وإما غبياً. والحقيقة باختصار أن غياب العقل والحرية، يحقق الصفتين على مر التاريخ. القافلة كي لا تتوه، لا بد أن يحدوها العقل والحرية… المؤامرة، آيديولوجيا الهروب من الاثنين.
نقلا عن العربیه