العلاقات الروسية اليابانية ورواسب الماضي/عبدالله المدني

لاحظ المراقبون منذ مطلع الألفية الجديدة نشوء أشكال من التعاون الاقتصادي والتجاري والتقني والأمني والثقافي والنفطي بين روسيا الاتحادية واليابان، كما لوحظ شروع البلدين في مشاريع استثمارية مشتركة (أصبحت اليابان ثامن أكبر مستثمر عالمي في روسيا وشملت استثماراتها شبكات المواصلات وخطوط أنابيب النفط، ومصانع لسيارات تويوتا وقطع غيارها)، وبطبيعة الحال فإنه في زمن الحرب الباردة واستقطاباتها، لم يكن هناك مجال للحديث عن مثل هذا التعاون الثنائي بين الاتحاد السوفييتي واليابان، بسبب وجود البلدين في خندقين متضادين، ناهيك عن وجود خلافات حدودية قديمة بينهما.


كان المأمول بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أن تلجأ موسكو وطوكيو إلى إيجاد حل حضاري لتلك الخلافات المزمنة، وبالتالي إعادة تأسيس علاقاتهما البينية على أسس متينة، خصوصاً أنهما من الدول ذات الثقل في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية، غير أن الطموحات السياسية لكل منهما، وعدم توقيعهما معاهدة سلام منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، أفسد علاقاتهما التي ظلت تراوح بين الهدوء تارة والتوتر تارة أخرى، والجدير بالذكر أن المحور الرئيسي لخلافاتهما هو حق السيادة على جزر الكوريل التي تمتد لمسافة 1200 كلم ما بين شبه جزيرة كامتشاتكا الروسية وجزيرة هوكايدو اليابانية في أقصى شمال شرق آسيا، وهذه الجزر التي تبلغ مساحتها الإجمالية نحو 15.5 ألف كلم مربع ويسكنها أكثر من 20 ألف نسمة، تحتوي على ثروات كبيرة من النفط والغاز والمعادن (منها معادن نادرة كمعدن الريني الذي يوجد منجمه الوحيد في العالم في جزيرة إيتوروب التي تبلغ مساحتها 3 آلاف كلم مربع)، ومخزون هائل من الثروات البحرية (يقدر ما يتم اصطياده سنوياً من المياه المحيطة بجزر الكوريل بنحو 1.6 مليون طن من الأسماك)، وتتمتع بموقع استراتيجي وعسكري مهم، لذا فليس من المستغرب أن يدور حولها صراع متوارث ومتجدد عبر الأزمنة. متوارث ومتجدد، لأن النزاع والتنافس حولها مر بتطورات عديدة، ففي منتصف القرن الـ19 عقدت «معاهدة شيمودا» التي أعطت جزر الكوريل الجنوبية لليابان وجزر الكوريل الشمالية لروسيا القيصرية، فيما أبقت جزيرة سخالين تحت إدارة مشتركة، وبعد ذلك بعقدين من الزمن أبرمت «معاهدة سان بطرسبرغ» لعام 1875 والتي قبلت فيها روسيا التنازل لليابان عن كل جزر الكوريل مقابل أن تحصل على حق السيادة على جزيرة سخالين فقط، وخلال الحرب الروسية اليابانية (1904 -1905)، والتي انتهت بهزيمة روسيا، أحكمت اليابان سيطرتها على أراضي جزر الكوريل وجنوب سخالين، لكن هذه الأراضي عادت إلى الاتحاد السوفييتي في عام 1945 أي خلال الحرب العالمية الثانية بموجب اتفاقيات مؤتمر يالطا.

أما في عام 1951 فقد وقّعت اليابان المهزومة مع الحلفاء المنتصرين «معاهدة سان فرانسيسكو» للسلام التي تخلت بموجبها قسراً عن حقها في السيادة على جزر الكوريل، بينما امتنع الاتحاد السوفييتي عن التوقيع، الأمر الذي جعل اليابان تدعي لاحقاً أن الأجزاء الجنوبية (أربع جزر هي: هابوماي، شيكوتان، كوناشير، وإيتوروب) لسلسة جزر الكوريل ليست جزءاً من جزر الكوريل التي تخلت عنها، وبالتالي لها حق استعادتها.

وفي سنة 1956 صدر إعلان مشترك من الحكومتين حول إعادة العلاقات الدبلوماسية، كما أعلنت موسكو موافقتها على إعادة جزيرتين من الجزر الأربع التي تطالب بها اليابان، وهما «شيكوتان» و«هابوماي»، شريطة التوقيع على معاهدة سلام رسمية تنهي جميع المطالبات، إضافة إلى إنهاء أي وجود أجنبي على الأراضي اليابانية، غير أن طوكيو رفضت تحت ضغط حليفتها الأميركية التي كانت تخوض وقتذاك حرباً باردة مع موسكو، حيث أعلنت طوكيو أنها لا تقبل الشروط السوفييتية، لأن لها حقوقاً إقليمية وتاريخية في جزر الكوريل الجنوبية كافة بالإضافة إلى جزيرة سخالين.

ومؤخراً عادت قضية جزر الكوريل وسخالين إلى الواجهة، ليس لأن جهاز الأمن الروسي أعلن عن إلقائه القبض على مواطن روسي وعدد من مواطني جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية من أنصار تنظيم «داعش» الإرهابي ممن كانوا قاب قوسين أو أدنى من تنفيذ عملية إرهابية ضد مركز للنفط والغاز في جزيرة سخالين، وإنما بسبب قرار موسكو تعزيز وجودها العسكري في جزر الكوريل بنشر فرق إضافية من القوات الروسية فوقها، وهو ما احتجت عليه طوكيو عبر القنوات الدبلوماسية، واعتبرته أمراً مؤسفاً فسارعت موسكو إلى تذكيرها بأن جزر الكوريل أراض روسية، وبالتالي فمن حق روسيا استخدامها كما تشاء للدفاع عن البلاد.

وهكذا فإن هذا التطور لجهة انعكاساته السلبية على روابط البلدين، يعد مشابهاً لما حدث في فبراير الماضي حينما انتقت موسكو أسماء لجنرالات روس كبار من ذوي العلاقة بالحروب الروسية اليابانية لإطلاقها على جزر الكوريل، مثل الجنرال كوزما ديريفيانكو الذي وقَّع وثيقة استسلام اليابان في أواخر الحرب العالمية الثانية، والجنرال أليكسي غينتشكو أحد كبار القادة الذين شاركوا في حروب الروس مع اليابانيين.

ويُذكر في هذا السياق أن هذا العمل أفسد وأعاق مبادرة كان رئيس الحكومة اليابانية «شينزو أبي» قد قدّمها للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارة الأخير لطوكيو في منتصف ديسمبر 2016، حول وضع آلية متفق عليها لتوسيع وتعزيز الأنشطة الاقتصادية المشتركة في جزر الكوريل، كمقدمة لحل النزاع بشأنها، ومن ثم توقيع معاهدة سلام دائمة.

والسؤال الذي يطرح نفسه في النهاية هو: من يستفز الآخر كلما لاحت بارقة أمل في سماء العلاقات الروسية اليابانية، فيمنع إزالة العائق الوحيد أمام تعاون البلدين؟
نقلا عن الاتحاد