لسنا هنا بصدد الحديث عن الفرق بين الحداثة والتحديث وكل ما يثير التعارض أو التداخل بين المفهومين، وإنما الحديث عن مظاهر التحديث في حياتنا، هذه المظاهر التي تطرق لها بالبحث والدراسة الكثير من الباحثين وفي هذا المجال كتب محمود امين العالم ان مظاهر التحديث هي مجرد ملصقات خارجية غير نابعة من حياتنا نفسها، أو غير متحققة بإرادتنا الواعية.
وبشكل واضح يعتقد انها مظاهر تحديثية مشتراة من الغير، وليست ثمرة اختيارنا أو إنتاجنا، وهو تحديث يحتفظ بخارجيته فينا دون ان يمس خصوصيتنا الداخلية العميقة، اللهم الا تغريباً لهذه الخصوصية وطمساً لها، بل ومضاعفة لتخلفنا وعجزنا وتبعيتنا!
ولهذا فهي مهدرة مبتذلة، وهي في أغلبها مظاهر وأدوات مستجلبة مشتراة للاستهلاك والاستمتاع لا للانتاج والابداع، وهي مظاهر لا تحرك البنية العقلية أو المجتمعية المتخلفة، بل لعل تكرسها، ولهذا تفضي إلى مزيد من التمزيق في بنية الشخصية العربية بهذه المفارقة الصارخة بين التحديث، الاستهلاكي المظهري والتخلف الانتاجي، بين التحديث الادواتي والتخلف الفكري، بين التحديث البذخي الاستمتاعي والتخلف والابتذال القيمي، بين التحديث في المظهر والقبلية والعشائرية في الجوهر!
وهنا فالجانب الأهم هو ان التحديث الحقيقي بحسب رؤية العالم هو تجدد الحياة، وتجدد الانسان، تجدد الرؤية الانسانية واتساعها وتعميقها ومضاعفة القدرة المعرفية والوجدانية الانسانية على امتلاك قوانين الحياة وشروطها وتغييرها وتجديدها لمصلحة الانسان. انها الكشف المجدد المغير دائماً للرؤية وللحياة الانسانية في انحائها المختلفة الادبية والفنية والعلمية والفكرية والاجتماعية والثقافية عامة، فأين هذا التحديث – حتى في أدنى صوره – من واقع حياتنا الراهنة؟
عن هذا السؤال يجيب: كان معنى النهضة وهدفها منذ بدايتها في القرن التاسع عشر هو اللحاق بالغرب وهو نتيجة اندماج وتبعية بلاد العرب للغرب، وكان الغرب الرأسمالي قد اخذ يتسع متطلعاً إلى توحيد العالم كله وتنميطه سياسياً واقتصادياً وثقافياً بحسب رؤيته ومصلحته، في حين كانت هناك ردود فعل سياسية مختلفة فكرية وسياسية، هناك تيار يرفض الاندماج بالعودة إلى تراث الماضي، والديني منه بوجه خاص، وتيار يقبل الاندماج ووجد فيه الطريق الوحيد للتقدم، وتيار ثالث توفيقي بين الاثنين، وتيار رابع مستقل يؤسس استقلاله على ارتباطه بالشعب والتزامه بمصالحه بما يراه في الغرب من قيم لا تهدر لهذا الاستقلال ولا تلغيه بل تنميه.
في ظل الاندماج والتبعية للغرب كان التحديث يكرس ذلك وليس التحديث الذي يؤكد الذات ويحمي الخصوصية وينمي القدرة على الانتاج والابداع.. بمعنى انه تحديث مفروض سطحي لا يمس جوهر البنية الاقتصادية والاجتماعية، كان التحديث يكرس التبعية لا الاستقلال لخدمة الرأسمالية العالمية على حساب الخصوصية التنموية الاستقلالية العربية، يغلب عليه الطابع التقني على الطابع الانساني والطابع المظهري النفعي على الطابع المجتمعي الحضاري!
ومع ذلك يعتبر انه من التعسف ان ننسب استمرار هذه التبعية التحديثية إلى الأثر الخارجي وحده، أي التدخل الرأسمالي الاستعماري الغربي وحده، فلاشك ان قوى اجتماعية طبقية داخلية كانت ولاتزال مسؤولة ومتواطئة وذات مصلحة مستمرة في استمرار هذه التبعية واستشرائها!!
وفي ظل هذه الوضعية كانت ثمة محاولات للتخلص من هذه التبعية مع الاستفادة والاستعانة بكل ما انجزه الغرب الحضاري من ابداعات وابتكارات علمية اقتصادية وفكرية وتكنولوجية، والامثلة على ذلك (مصر وبلاد الشام والجزائر والسودان واليمن) الا ان ثورات شعوب هذه الدول لم توقف السيطرة التابعة لمصلحة قوى الاستغلال والتخلف الداخلي، والقوى الرأسمالية العالمية وربيبتها الصهيونية، هذا ما اسهم في استشراء هذه السيطرة بوسائل السلطات الداخلية التي تقمع الحريات الديمقراطية وحقوق الانسان وتمنع المشاركة في اتخاذ القرار!
الحصيلة التي يبينها العالم هي: لقد انعكس هذا الوضع على الثقافة العربية، فمع كل مظاهر التحديث التقني التابع قامت كذلك ثقافة يغلب عليها هذا الطابع التقني التابع، انها ثقافة السلطة التي تضخها عن طريق وسائل الاتصال الجماهيري.
وما تُشيعه من قيم وافكار واذواق تكرس بها توجهاتها السياسية ومصالحها الاقتصادية وهكذا كما يبين العالم اقيمت واتسعت سوق للثقافة والمثقفين، اصبحت فيها الثقافة سلعة للتبرير والتحذير والتضليل والتغريب والاستهلاك والاذعان!
وفي مقابل ذلك تتفجر توجهات ثقافية معارضة تتسم بالرفض المطلق للتحديث خاصة وللغرب عامة، وتتمثل هذه الثقافة في الاتجاهات الماضوية الدينية المتزمتة التي تجد في الماضي الاجابة الوحيدة الصحيحة لكل اسئلة الحاضر اي الرفض المطلق للحاضر والتبعية المطلقة للماضي، وهي بهذا لا تقدم بديلاً موضوعياً للتحديث التابع.
ومن هنا يتحدث العالم عن النزاع بين الأنظمة العربية وبين بعض الحركات الدينية الاصولية معتبراً أن اساس الصراع سياسي على السلطة، فليس ثمة خلاف بينهما حول النظام الاقتصادي السائد.
ويتحدث ايضاً عن بعض الاجتهادات المستنيرة نسبياً ذات تفتح موضوعي على حقائق العصر يسود بعض هذه الحركات الدينية، في حين تحدث وبإسهاب عن رؤى تحديثية أخرى مختلفة جذرياً من اجل تحقيق تحديث اجتماعي حضاري.
المصدر: الأيام البحرينية