عجز المنظمة الخليجية الإقليمية عن إجتراح حل جماعي للنزاع مع قطر بصفته معضلة خليجية بحتة، لا ينزع عن مجلس التعاون وجاهة حضوره وحيوية ومحورية منظومته داخل الحياة السياسية والاقتصادية والامنية لدول المنطقة.
تثير الأزمة الخليجية مع قطر مسألة لزومية ونجاعة مجلس التعاون الخليجي، كما تثير أسئلة حول مستقبل هذا التجمع الإقليمي لجهة انتفاء المشترك فيه لحساب ما يتناكف مع المصالح الخاصة للدول الست الأعضاء.
في الخوض في تلك المسألة هناك من يعتبر أن ولادة المجلس أتت للرد على لحظة تاريخية معينة، وأن زوال تلك اللحظة يزيل رد الفعل عليها (محمد المسفر). ووفق هذا المنطق فإن لجوء الخليجيين للتكتل عام 1981 ردا على ما اعتبروه أخطارا تبثها أجندات الجمهورية الإسلامية في إيران واحتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، بات متقادما، وبالتالي فإن مهمة المجلس قد انتهت أو فقدت صلاحيتها.
على أن هذه التجربة الخليجية، وإن سلمنا بحوافزها التاريخية، فإنها طوّرت من خلال دينامياتها تصوراً جديدا آخراً لكيفية بناء صرح إقليمي على قاعدة المصالح وتفعيل ما هو مشترك، على نحو يطيح بكل المحاولات الإقليمية العربية التوحيدية السابقة (في اندماجيتها في الحالة المصرية-السورية أو في ظهورها العرضي المؤقت في حالة اتحاد المغرب العربي او مجلس التعاون العربي مثلاً) والتي جرت مقاربتها على قواعد أيديولوجية بليدة أو ظرفية متعجلة لا تتفق مع الواقعية والعناصر العملية لتقاطع الأمم.
وفيما أن المواطن العربي من مشرقة إلى مغربه لم يشعر يوما بتأثير قرارات جامعة الدول العربية على يومياته ومستقبل مصيره، فإن تجربة مجلس التعاون الخليجي أقامت ثقافة وشيدت تقاليد سياسية وقانونية وإدارية لم يعد بالنسبة للمواطن الخليجي نفسه من السهل التغاضي عنها واعتبارها حادثا عابراً في تاريخه الحديث. وإذا ما كان المجلس كمؤسسة عاجزا، بناء على آلياته الذاتية، عن فرض حل للأزمة الراهنة المتعلقة بقطر، فذلك أن لُبنات هذه الأزمة ومسوّغاتها تعكس علّة بنيوية تقف وراء الشلل الذي يصيب “المؤسسة” ويمنع حيويتها كما يهدد مستقبل وجودها.
قد لا يكون من الحكمة استخدام حجّة لا لزومية مجلس التعاون الخليجي للتبرير لتفرد في سياسات الدول الأعضاء، وكأنها عودة إلى ما هو أصل في تفرّق الخليجيين لتجاوز ما هو فرع في قيام مجلس الخليجيين منذ 36 عاماً.
وتكشف الأزمة الخليجية الحالية عن انتقال مجلس التعاون الخليجي من طور الوحدة مهما كان الثمن، إلى طور وضع أثمان لبقاء المجلس وديمومته.
بكلمة أخرى، يرتقي مجلس التعاون الخليجي، رغم أزمته، من حقبة “التآلف البيولوجي” التي تتأسس على خطاب القرابة القبلية والتماثل الانتروبولوجي، إلى حقبة تعيد تعريف تلك الوحدة بمعايير حديثة عقلانية تبتعد عن بدائية عشائرية جعلت من اللغة والدين وصلة الدم أساساً لما قد يقترب من بنيان عنصري شوفيني في عناصره ومبرره الأخلاقي.
وما الأزمة الخليجية الظاهرة على هذا النحو الدراماتيكي منذ أسابيع، إلا رأس جبل لما كان غارقاً تواطأت كافة دول المجلس الأعضاء في إخفائه خلال أكثر من ثلاثة عقود. ذلك أن المصالح الذاتية متكئة على فلسفات إجتماعية وسياسية حفرت يوما بعد يوما شقوقا عميقة لا تتفق مع الخطاب العلني الممعن في تقديم وجبة خليجية وحدوية يشوبها كثير من التمظهر الشكلي على حساب مضمون فاعل خلاق.
قد يجوز المغامرة في القول أن حرص الخليجيين على إنقاذ وجه المجلس أتاح سلوكاً يتيح ذهاب الأعضاء، أو بعضهم، إلى خيارات تتناقض مع روح العمل الجماعي من جهة، لا بل تذهب مذاهب معادية، ليس فقط لأبجديات العمل المشترك الذي تقوم عليها الاتحادات الإقليمية الكبرى، بل معادية لأمن ومصالح دول الخليج سواء كان المجلس موجوداً أو غير موجود. وبالتالي فإن ما كان تمرداً مارسته كافة الدول الأعضاء على بعضها البعض ينهل زاده من فراغ قانوني ومعرفي ودستوري وفلسفي أتاحه المجلس كفكرة ومؤسسة وورشة تدوير للزوايا وتأجيل الصراعات.
وفي بديهيات الأزمة الخليجية الحالية ضد قطر ما ينقل السؤال إلى مكان يدفع باتجاه قراءة وجودية مجلس التعاون ولزوميته وقواعد بقائه.
أول تلك البديهيات هو تشريح مدى ارتباط مصالح الدول الأعضاء ببعضها مقارنة بمصالحها مع العالم، وتحليل مدى ارتباط أمن واستقرار هذه الدول بأمن المجلس واستقراره كأمر سابق على ارتباط ذلك بأمن وأجندات عواصم بعيدة عن المجلس.
وقد يكشف انتقاد الدول المقاطعة لقطر علاقاتها غير العادية مع إيران أو ارتباط الدوحة بعلاقات ما فوق خليجية مع تركيا أو صلات قطر مع جماعات الإسلام السياسي دون غيرها من بقية الدول الأعضاء، جوانب من حالة التصدّع في القواعد المؤسسة لروحية الخليج في مقاربته المؤسّسة للمجلس.
غير أن عجز المنظمة الخليجية الإقليمية عن إجتراح حل مؤسساتي جماعي للنزاع مع قطر بصفته معضلة خليجية بحتة، لا ينزع عن مجلس التعاون وجاهة حضوره وحيوية ومحورية منظومته داخل الحياة السياسية والاقتصادية والامنية لدول المنطقة.
تكفي ملاحظة عجز العواصم الدولية عن حمل أي حل للأزمة الراهنة مع قطر، وبالتالي عجز الدول النافذة الكبرى عن إختراق المقاربة الخليجية لأي حل والمتمثلة بإجماع الخليجيين كما المجتمع الدولي برمته بالوساطة الكويتية في هذا المضمار.
وفيما يتسرب من شقوق الأزمة الراهنة أصوات خليجية تنذر باندثار المجلس وانتهاء حضوره، فإن العالم أجمع بات، وبمناسبة الأزمة مع قطر، مسلّماً بالحفاظ على وجود مجلس التعاون ووحدته، ليس كرمى لعيون الخليجيين، بل لأن الأمر أصبح من الضرورات الاستراتيجية للأمن والسلم العالميين، بحيث لا تتناقض في ذلك باريس ولندن وواشنطن كما موسكو وبكين.
وربما أن التجربة التي يمر بها الخليجيون هذه الأيام تدفع بالماء إلى طواحين مجلس التعاون الخليجي وإزدهاره فكرة ومؤسسة ووجوداً، وتقوّض من حجج النادبين على راهن هذا المجلس والمشككين بعناصر وديناميات بقائه. فالواضح أن العلّة التي يعيشها الخليجيون هي خليجية لا تنفع بها علاجات وزراء الخارجية الذين يتوافدون من واشنطن ولندن وبرلين وباريس وأنقرة وغيرها، وإن التعويل على العلاجات المستوردة يعكس جهلاً واستخفافا بالقماشة الخليجية التي صانت وما زالت قادرة على صون الخصوصية الخليجية وحساسياتها.
قد تكشف المواقف الدولية التي سعت للتأثير على بيتية الأزمة وخليجيتها، لا سيما تلك المقاربة التي حملها ريكس تيليرسون وزير الخارجية الأميركي من خلال ملامسة الأزمة من خلال مذكرة ثنائية بين واشنطن والدوحة لمكافحة تمويل الإرهاب، عن تبدّل في المشهد الدولي العام الذي لم يعد يتيح للإرادات الكبرى فرض أجندتها على وجهات العالم.
والأمر في هذا لا يتعلق فقط بشأن النزاع الخليجي مع قطر، بل ينسحب على كافة النزاعات الدولية، لا سيما تلك التي يشهدها الشرق الأوسط في بقاع بركانية عديدة. غير أن كثافة المواقف والجهود والزيارات التي تجري للمساعدة على حلّ الأزمة مع قطر، كشفت أيضا على نحو لافت عقم ما هو فوق خليجي بانتظار أن يعود للعلاجات الخليجية وحدها احتكار رسم خريطة الطريق للخروج من عنق الزجاجة حتى لو استغرق ذلك الرسم زمنا طويلا يحتاجه أي طبخ خليجي.