حوافز الرئيس التركي في زيارته للمنطقة تتجاوز مسألة النزاع مع قطر. تبدو المسألة القطرية بعيدة عن أن تكون في صدارة الأجندة التركية، كما داخل محددات المنظومة الأمنية الاستراتيجية لتركيا.
يمثل إعلان الرئاسة التركية عن جولة سيقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 23 و24 من الشهر الجاري، تقوده إلى السعودية وقطر والكويت، تطورا لافتا في مسألة ارتباط أنقرة بالنزاع الخليجي مع قطر.
فأن يتوجّه الرئيس التركي شخصيا بعد فشل وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو في تحقيق أي إنجاز أثناء جولته الخليجية في يونيو الماضي، وعقب إرسال تركيا قوات عسكرية إلى قاعدتها في قطر، فإن ذلك يعكس حرجا تركيا بدأ يرى في مقاربة أنقرة للأزمة القطرية اصطفافا فيه من العجلة ما لا يعزز الموقف القطري، وفيه من الانحياز الغريزي ما يقوض علاقات تركيا بمنطقة تتقاطر دول العالم أجمع على التموضع حولها.
ولا يمكن إدراج زيارة أردوغان للسعودية والكويت وقطر إلا بصفتها مدخلا بات مطلوبا للنزول عن شجرة صعد أردوغان عاليا إلى قمتها بروح انفعالية لا تتوافق مع سلوك الدول الكبرى.
ولا يمكن أن نتصور أن الرئيس التركي ذاهب شخصيا لتعزيز الموقف القطري أو لاستطلاع أسباب الخلاف التي باتت علنية مكشوفة اطلع وزير الخارجية التركي على حيثياتها مباشرة بلقائه مع المسؤولين السعوديين.
والأرجح أن الرجل الأول في تركيا قد يأتي حاملا لديباجة حلّ تؤسس لتنازلات ممكنة للدوحة تقدمها بمعونة من تركيا “الحليفة”، على نحو يجعل منه (أي أردوغان) بطل تسوية تعيد تصويب موقع تركيا لدى دول مجلس التعاون الخليجي. وما يعزز هذا الاحتمال أن أردوغان استبق زيارته للمنطقة باتصال مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، لعل في المداولات الهاتفية ما يمهد لترتيبات تحاكي أهداف الزيارة.
ولئن يطرق أردوغان باب الرياض بصفتها بوابة دول المقاطعة الأربع (مع الإمارات ومصر والبحرين)، فهو يتحرى مقاربة تجعل سعيه مقبولا من قبل مصر والإمارات اللتين يأخذ التناقض التركي معهما جوانب أكثر حدة وعلنية.
ولا ريب أنه كان لافتا حرص الرياض وأنقرة على تجنب أي صدام علني دبلوماسي، على الرغم من أن إرسال قوات تركية إلى قطر في ظروف الخلاف مع الدوحة، لا يمكن إلا اعتباره من قبل الرياض والدول الخليجية سلوكا تصعيديا مريبا يخصب الأزمة الحالية بجرعات عسكرة لم تلـمّح إليها دول المقاطعة في العناوين الكبرى للأزمة، ولا في لائحة المطالب التي تم نشرها.
حافظت أنقرة منذ اللحظات الأولى لانفجار الأزمة مع قطر على مقاربتين متوازيتين.
الأولى تجاهر بالوقوف خلف قطر ودعم موقفها سياسيا وإعلاميا وعسكريا. والثانية مراعاة الجانب السعودي وتأكيد التعويل على قدرة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز على اجتراح الحل الأمثل للخروج من الأزمة.
بالمقابل لم تصعّد الرياض لهجتها الدبلوماسية ضد أنقرة، وعمدت إلى التقليل من أهمية الموقف التركي من هذه الأزمة، واعتباره هامشيا مقارنة بمواقف الدول الكبرى وحجيج وزراء خارجيتها باتجاه المنطقة. وبالتالي فإنها (أي الرياض) وقفت في التعامل مع الموقف التركي على مسافة تتيح لأنقرة إعادة التموضع وتصحيح أداء منحاز في أمر هو من خصوصيات البيت الخليجي وحساسياته.
بيد أن أردوغان الذي يضع جولته المقبلة في الخليج في إطار وساطة يقوم بها لإصلاح ذات البيْن داخل مجلس التعاون الخليجي، يدرك أن تركيا لم تعد مؤهّلة، بعد موقفها الصريح المنحاز إلى جانب قطر، بأن تلعب بمهارة دور الوسيط بالمعنيْين السياسي والحرفي للكلمة.
وبالتالي فإن الرئيس التركي يأتي إلى المنطقة تحت عنوان بحث أزمة قطر من أجل هدف آخر يروم إعادة ترميم علاقات بلاده مع المنظومة الخليجية عامة والسعودية بوجه خاص، ذلك أن أردوغان أدرك أن الرياض وحلفاءها في المنطقة باتوا يشكلون تيارا إقليميا له امتداداته الدولية، وأنه من الحكمة عدم خسارة علاقات بلاده ونظامه السياسي للعلاقات الاقتصادية والسياسية والجيواستراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي، وهو الذي يراقب بقلق تصدّع علاقات أنقرة مع موسكو وواشنطن، وتراجعها مع الاتحاد الأوروبي، كما تقلّص نفوذ بلاده داخل التطورات الجيواستراتيجية الحالية والمقبلة في العراق وسوريا.
في هذا الإطار ستستقبل الرياض أردوغان من موقع قوي يعبّر عن وحدة موقف الدول المقاطعة من المسألة القطرية، وعن عجز العواصم الكبرى بمواقفها ومصالحها ومناوراتها وزيارات موفديها عن إحداث أي مرونة تتجاوز روح القطيعة التي أُطلقت منذ 5 يونيو الماضي، ويعبر أيضا عن الأداء البراغماتي الذي تعاطت به السعودية مع الموقف التركي دون أي انفعال أو سلبية في مواجهته، بما في ذلك الزيارة التي قام بها الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة وزير خارجية البحرين، القريبة من السعودية، إلى أنقرة في 10 يونيو الماضي على الرغم من الموقف التركي.
وستستقبل الرياض أردوغان وهي تعرف ما قالته لوزير خارجيته وما حمّلته إياه من مواقف نقلها بدقة إلى رئيسه، وهي تدرك جسامة الشطط العسكري الذي ارتكبته أنقرة بإحياء وتفعيل القاعدة التركية في قطر في هذه الظروف الحرجة بالذات.
غير أن حوافز الرئيس التركي تتجاوز في زيارته للمنطقة مسألة النزاع مع قطر. تبدو المسألة القطرية بعيدة عن أن تكون في صدارة الأجندة التركية داخل المشهديْن الإقليمي والدولي، كما داخل محددات المنظومة الأمنية الاستراتيجية لتركيا.
يشي الاستفتاء الذي من المزمع أن يجريه إقليم كردستان العراق في 25 سبتمبر المقبل، إضافة إلى التحوّلات الدولية المجمعة على حماية القوات الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي المنضوية داخل “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بأن تطورا استراتيجيا كبيرا هو قيد الإعداد ويهدد السكينة التي فرضتها اتفاقات سايكس – بيكو على الحدود الجنوبية لتركيا.
وواضح من خلال يوميات الصراع في المنطقة أن موقف أنقرة وطهران الرافض، بأي شكل من الأشكال، لإنشاء كيانات كردية سياسية في المنطقة، لم يعد كافيا ولا يرقى إلى مستوى جدية ما يُحاك دون موقف عربي واضح تقوده السعودية.
وواضح أيضا أن استضافة الإعلام السعودي الورقي والتلفزيوني في الآونة الأخيرة لقيادات كردية، لا سيما من سوريا، للإدلاء بوجهات نظر، فهمتها تركيا تماما واعتبرتها، على الرغم من إمكانية أن تندرج ضمن إطار رد الفعل الظرفي المؤقت على موقف أنقرة من قضية قطر، تؤسس لمزاج عربي جديد قد لا يرى في الحراك الكردي ما يستدعي موقفا معاديا بالمستوى الذي تحتاجه تركيا لوقف التطور الكردي الجديد في المنطقة.
لا يبدو أن أردوغان قادر على استدعاء موقف عربي للمسألة الكردية في ظل الأزمة التي تعيشها المنطقة مع قطر. ولئن يتمحور الصراع الحالي حول قطر والدول الأربع المقاطعة، إلا أن العالم العربي برمته متأثر بهذه الأزمة ولا يمكن أن يدلي بدلو سليم وصحيح فيه كثير من الإجماع حول مسائل تتعلق بموقف المنطقة برمتها من قضايا الأمن الاستراتيجي العام، دون حلّ المسألة القطرية، والتوصّل إلى صيغة تزيل التوتر العام داخل المنظومة السياسية العربية.
قد يجوز القول إنه بات من مصلحة أردوغان ليس الوقوف مع قطر والتحيز لموقفها، بل استخدام نفوذ تركيا هذه المرة لدى الجانب القطري للخروج بتسوية تزيل كثيرا من عوائق التسوية، بما في ذلك حل مسألة العلاقة مع الإسلام السياسي ومصير شخصيات ترد أسماؤها في مداولات ما هو مطلوب من قطر.
وقد يجوز القول أيضا إن مصلحة تركيا وأمنها الاستراتيجي، سواء كان أردوغان وحزبه حاكمين لتركيا أم لا، تتطلب تجاوز الالتصاق بمصير تيارات وجماعات وشخصيات بعينها. أمر كهذا قد يناقشه أردوغان مع الدوحة مطولا، لعل في قناعات تركيا ما يطوّر قناعات قطر.