وعد: تستاهل ما ياها…/عثمان الماجد​”​

هاتفني صديق في اليوم التالي لصدور الحكم القضائي بحل جمعية «وعد»، ذارفًا دموع الحسرة على ما آل إليه مصير هذه الجمعية! مستذكرًا بالحب أيام الفرح الأولى التي تأسست فيها الجمعية لتعمل مع تجمعات سياسية أخرى بشكل علني لأول مرة في تاريخ البحرين، ذاكرًا بعضًا من أسماء السياسيين الذين عادوا إلى البحرين بعد غياب طويل يحملون معهم تباشير مستقبل سياسي زاهر بناءً على معطيات مازالت ثابتة كرّسها المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، هذا المشروع الرائد الذي يُعد النواة الصلبة التي تنتظم حولها كل المكتسبات الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية في البحرين الجديدة.

هاتفني هذا الصديق وأنا أستمرئ قرار الحل شأني في ذلك شأن قاعدة عريضة من أهل البحرين ممن كنت لا تسمع لهم من تعليق إلا قولهم ( تستاهل ما ياها)، والحقيقة أن موقفي هذا لا صلة له بالعواطف والوجدان وإنما هو نتاج منطقي لقراءة في تاريخ هذه الجمعية وما آل إليه من انحرافات جعلها تستحق الالتحاق برفيقتها جمعية «الوفاق» في المصير نفسه والهاوية عينها، فهذه الجمعية التي يفترض فيها الانتماء إلى التقدمية وقيم الحداثة وضعت يدها في يد جمعية غارقة في طائفية مقيتة قسمت مجتمعًا بنى هويته الثقافية والحضارية من خلال إيمانه بالتنوع والاختلاف؛ لترغمه على اصطفاف مذهبي طائفي صار معه المذهب والعرق مقدمًا على الوطن. اختارت «وعد» أن تتحالف مع من دانوا بالولي الفقيه منذ اليوم الأول لبدء العملية السياسية، فافتتحت الجمعيتان حلفهما المناقض لمنطق العقل والطبيعة بمقاطعة الانتخابات الأولى في عام 2002، وكأنهما قد اتفقا بهذا على إلحاق أقصى درجات الضرر الموجعة بالمجتمع البحريني. وتلك في نظري كانت العلامة الأولى لتحول وعد إلى مسخ سياسي.
أفاض الصديق في حديث كان في جُله استعراضًا لمواقف هذه الجمعية غلبت عليه مقارنة مواقفها وأعمالها بمواقف ربيبتها جمعية «الوفاق» المنحلة؛ ليستنتج من ذلك أن كل المؤشرات تنذر بأن القضاء سيصل إلى الحكم ذاته. وختم حديثه بهذا التساؤل: هل ستكون «وعد» عنوانًا لمقال لك قادم؟ أجبت تساؤله بسؤال «وماذا سأكتب عن هذه الجمعية؟» «لقد كتبت وغيري أطنان الكلمات التي تدعو هذه الجمعية إلى التعقل، وإلى التفكير في فسخ تحالفها المشبوه مع جمعية (الوفاق) وباقي الجمعيات التي توفر لها جمعية (الوفاق) الغطاء السياسي.» قال: «أكتب أي شيء عن رعونتها السياسية، عن حلها، عن أي شيء». قلت لا، لن أكتب، من دون أن أفصل له لماذا لن أكتب.
ظل سؤال الصديق يتردد في ذهني طوال ذاك اليوم، أفكر في طلبه، وأفكر فعلًا في لِمَ لا يطاوعني القلم على الكتابة في مسألة حل هذه الجمعية. والحقيقة أنني استهديت إلى أسباب استعصاء القلم وتمنع الأفكار عن أن تنتظم لتشكل مقالاً يتناول مسألة حلّ هذه الجمعية. فهذه الجمعية ظلت ردحًا من الزمن تخالف وتكابر وتصر على المضي في دروب زلقة لا يأمن من يسير عليها الوقوع، منذ تأسيسها وحتى يوم حلها. فقد راق لها كثيرًا أن تزعم يأنها «معارضة»، وتحت هذا المسمى مارست جميع الموبقات السياسية، علمًا بأن المعارضة الحقيقية، في ظني «ليست استعداء للدولة، وليست معولاً من معاول هدم الوحدة الوطنية، وزرع الشقاق والخلاف، وإنما المعارضة الحقيقية قوة إيجابية ترفد الدولة والمجتمع بما يعينهما على تحقيق ما يصبوان إليه، وهي مظهر من مظاهر رقابة مدنية واعية للعمل الحكومي، وساعد من سواعد البناء التي لا يمكن للمجتمعات أن تتطور من دونها». فهل حملت «وعد» شيئًا من هذه المعاني ليكون لوجودها في فضاء الوطن مبرر منطقي، أم أنها كانت مجرد تجمع لفئة أسرتها الأهواء الإيديولوجية نجحت جمعية «الوفاق» في اختراقها لتحولها إلى أداة طيعة استخدمتها و«المجلس العلمائي» المنحلين وقاداها إلى أن تضيق دائرة المؤمنين بمبادئها وأفكارها بعدما عاينوا اصطفافها الأعمى خلف قوى الردة والتخلف والظلامية لتكون بذلك منبوذة في المجتمع، وينتهي بها المصير إلى الحل والاختفاء من المشهد؟ لعل هذا السؤال مناسب لأجتهد في الإجابة عنه، من دون أن يكون في الأمر استفزاز لمشاعر أحد.
باختصار جمعية «وعد» استعدت المجتمع والدولة وعملت ضد تطورهما المنطقي، وحملت بـ «الأمانة» الكافية التي طلبها منها «الوفاقيون» و«العلمائيون» شعار «باقون حتى يسقط النظام» على مدى السنوات التي بدأت منذ أحداث الدوار اللعينة، ودافعت عنه في الداخل والخارج من دون أدنى ذرة وطنية أو تفكير بما ستؤول إليه الأوضاع الاجتماعية في ظل الانقسام الحاد الذي أوجدته تلك الأحداث (أحداث الدوار)؛ ذلك أن شعار «إسقاط النظام» لم يكن في حقيقته يعني إلا انقلابًا على ما استقر في ذاكرة المجتمع من إجماع على حكم آل خليفة الكرام، وغير خطوة لإقامة الدولة الدينية بديلاً عن دولتنا المدنية التي بُذل الكثير الكثير من أجل تشييدها على النحو الذي صار مثالاً يحتذى به في الإقليم.
كان العشم من جمعية «وعد» بصفتها «الليبرالية» التي اعتقدها الناس أن تنأى بنفسها عن تجمعات الإسلام السياسي على مختلف انتماءاتها بعيدًا، فما بالك وأن هذه التجمعات التي عقدت معها تحالفًا شديدًا تجمعات مذهبية معادية للديمقراطية، ومدفوعة بقوة الطرد المركزي لتبني فكرة «ولاية الفقيه»، لكنها أبت إلا أن تكون أداة في يد هذه الجماعات تستخدمها متى تشاء وتلفظها متى تشاء. لفظتها بعيدًا عن كتلتها «الإيمانية» في انتخابات 2006 بل وكادت لها كي لا تظفر إلا ببعض الأصوات الهزيلة بذرائع إيمانية كانت أقرب إلى محاكم التفتيش الكنسية في القرون الوسطى، واستخدمتها بعد ذلك مستغلة سذاجة أو حمق أو غباوة أو سوء نوايا من تسلموا قيادة «وعد» في كل منعطفات الأحداث التي شهدها المجتمع البحريني في عام 2011.
في تصوري أن نغمة اللامبالاة والاستكبار على إرادة الدولة التي انتهجتها «وعد» كانت متعمدة، وهي نابعة من رغبة قياداتها في إحداث المزيد من التأزيمات المجتمعية، على أمل إحداث مزيد من الاحتقان المجتمعي، ولهذه النغمة أصل متوارث جينيًا من العداء السافر الذي كانت تشهره «الجبهة الشعبية». لكن خابت رغبتهم، وتكسرت مطامعهم على صخرة وحدة وطنية صماء. ومن أجل هذا استبشر الناس خيرًا لهذا الحل، ووجدوا فيه ثأرًا مدنيًا مواطنيًا قانونيًا ممن أرادوا السوء بهذه الأرض الطيبة.

نقلاً عن الأيام البحرينية