الثورات العربيّة بين طلب الحرّية ووعيها/حازم صاغية

تقود ملاحظة الوجهات التي سلكتها الثورات العربيّة منذ 2011، إلى تفاوت واضح بين الطلب على الحرّية (وفي عداد ذلك الكرامة، وتوفير الشروط اللازمة للطلب على المساواة) وبين الثقافة الملازمة لذاك الطلب.


وقد جاءت الذكرى الخمسون لهزيمة حزيران (يونيو) 1967، قبل أيّام، لتدلّ على تشابه بعيد لا يزال قائماً في عمليّة التأريخ والتحقيب بين الأنظمة (ومعها «معارضاتها» الرسميّة) وبين الثورات عليها، أو بالأحرى، البيئات الثقافيّة والفكريّة لتلك الثورات.

هكذا تمّ إبطاء الفرز، بل القطع، في النظر إلى التاريخ، وعليه تمّ إبطاء العمليّة المزدوجة التي لا بدّ منها: تحرير العقل من الخرافة، والمساهمة في تعبيد الطريق إلى مستقبل حرّ. وهذا، أيضاً، كان انتصاراً لعمليّة مركزة التاريخ (والواقع تالياً) حول السلطة.

فالسرد الرسميّ، ابتداءً بـ «نكبة» 1948 وصولاً إلى «نكسة» 1967، لم يتغيّر كثيراً في احتفاظه بهذه المعالم والمحطّات الكبرى، وإن ظهر الانشقاق عنه في حدود توجيه الاتّهام وتعيين الجهات المسؤولة عن الإخفاق.

وبالعودة إلى الوراء، يُلاحَظ أنّ الانتقادات التي وُجّهت إلى هزيمة 1967، أصدرت حينذاك عن إسلاميّين أو عن يساريّين، بدت محكومة بالهمّ الحارق: لماذا حصلت، وكيف نردّ عليها؟ الإسلاميّون، مثلاً، ألحّوا على العودة إلى الله. اليساريّون توزّعوا بين مُطالب بقيادة الطبقة العاملة ومُطالب بتغييرات جذريّة في الاجتماع والثقافة، وبين داعٍ إلى حرب عصابات وداعٍ إلى حرب عسكريّة نظاميّة.

وكانت تلك الانتقادات، على تباينها، تتضمّن فرضيّة غير معلنة مفادها أنّ الردّ على الهزيمة هو معيار الحاكميّة الصالحة. فلو استطاع حافظ الأسد ذلك، مثلاً لا حصراً، لأمكن غضّ النظر عن استبداده، أو على الأقلّ إبداء درجة من التسامح والتحمّل مع ذاك الاستبداد. وغالباً ما خانتنا ملاحظة أنّ «انتصار» جمال عبد الناصر في 1956 هو ما مكّن طغيانه اللاحق وسهّل عليه ما كان بدأه في 1954 لجهة توطيد دولة التنظيم الواحد وزعيمها المعبود.

في الحالات جميعاً، فإنّ المعبّرين عن ثورات الحرّية لا يملكون الكماليّات التي كانت متاحة لنقّاد ما بعد هزيمة 67. ذاك أنّهم يعبّرون، بالتعريف وبالضرورة، عن الطلب على الحرّية التي لا تُنتزع إلاّ من تلك الأنظمة. وهم، في عملهم هذا، يعاودون اكتشاف بلدانهم عبر استخلاصها من الروايات الرسميّة الخارجيّة، كما ألّفتها السلطات و»معارضوها» الرسميّون. يصحّ ذلك خصوصاً في ميدان تأريخ تاريخنا المعاصر.

وفي هذا المجال، لا يؤتى بجديد حين يقال إنّ الرواية القوميّة للتاريخ، وتعيينها للمنعطفات والمحطّات، كانت من أعتى الأسلحة في مصادرة الأنظمة حرّيةَ مجتمعاتها وإعدام احتمالاتها السياسيّة.

والحال أنّه من وجهة نظر الطلب على الحرّية، تحضر محطّات تأسيسيّة قلّما استرعت انتباه البيئة الثقافية والفكريّة لثورات الحرّيّة. وهي محطّات تشذّ عن التأريخ الرسميّ والقوميّ بـ «النكبة» (التي ردّ عليها العسكر بإقامة أنظمة أمنيّة قوميّة) و»النكسة» (التي «لم تنجح» في إسقاط تلك الأنظمة).

فـ «النـــكبة» الفعــليّة، إذا جازت التسمية، إنّما تبدأ بالناصريّة التي قطعت نهائيّاً طريقاً، شابه التعثّر، لبناء مجتمع سياسيّ في مصر.

وغنيّ عن القول إنّ أحداً ما كان في وسعه أن يتنبّأ سلفاً بالآفاق التي كان يمكن أن تفضي إليها البدايات البرلمانيّة المضطربة السابقة على الناصريّة. لقد قضت الأخيرة على الأحزاب وأمّمت الإعلام وألحقت النقابات وصادرت الحياة الاقتصاديّة مثلما صادرت الحياة السياسيّة. إلاّ أنّها، فوق هذا، تحوّلت النموذج المؤسّس لعمليّات تكرارها في بلدان المشرق العربيّ، لا سيّما العراق وسورية.

ومن وجهة نظر الطلب على الحرّية، يرقى انهيار لبنان في 1975 إلى «نكبة» أخرى. ذاك أنّ هذا البلد الذي تجنّب النموذجين السائدين عربيّاً، العسكريّ والسلاليّ، كان يعيش تجربة مفتوحة أيضاً على احتمالات شتّى. وقد انطوت تلك التجربة، على ما اعتراها من قصور كبير، على حياة برلمانيّة وإعلاميّة وحزبيّة ونقابيّة عزّ نظيرها في سائر العالم العربيّ.

وكان «نكبةً» أخرى، من وجهة نظر الطلب على الحرّية، تعاطي النظام العسكريّ – الأمنيّ – القوميّ مع الأقلّيّات، أكانت طبقيّة ومهــنــيّة (تجّار، صناعيّين، نقابيّين، معلّمين، ذوي ثقافة غربيّة…) أم دينيّة وإثنيّة (الحالة الأفدح كانت الحرب على أكراد العراق، ثمّ أهوال شيعة العراق في عهد صدّام، والتوظيف القوميّ لفلسطينيّي المشـــرق والمـــتاجرة بهم، وإرعاب مسيحيّي لبنان وابتزازهم). لقد قلّص هذا السلوك المنهجيّ واقع التعدّد في مجتمعاتنا بقدر ما ساهم في ترييف مدننا على النحو الذي تشتهيه شوكة الاستبداد والواحديّة.

أمّا «نكبة» احتلال صدّام حسين الكويت فهي أيضاً فاتت شبكة رادارنا في رصده الحرّية. ذاك أنّ تلك التجربة كانت قاصمة لأفكار تبدأ بالحقّ في تقرير المصير ولا تنتهي عند التسليم بالقوّة العسكريّة أداة يُحتكم إليها في نزاعات الدول.

هذه «النكبات» التي منيت بها الحرّية في العالم العربيّ لم تحظ بما تستحقّه في حساسيّات البيئة الثوريّة الطالبة للحرّية. لا بل كثيراً ما تجاوز بعض رموز الحساسيّات الأخيرة حدّ التجاهل لتلك «النكبات» لإعلان التعاطف مع بعض المتسبّبين بها (عبد الناصر وصدّام حسين خصوصاً).

في هذه الغضون، يبقى ذاك الفارق بين الطلب على الحرّية ووعيها أحد الأسباب التي تفسّر انتشار الوعي الإسلاميّ وامتداده، هو الذي لا يخالف الوعي القوميّ في النظر إلى الذات وإلى العالم المحيط. وكلّما استمرّ ينمو هذا الفارق استمرّ ينمو ذاك الوعي بوصفه وحده ما يستطيع أن يملأ، على نحو زائف، ذاك الفراغ القائم في المجال هذا.

وممّا يتأدّى أيضاً عن استمرار ذاك الفارق تعزيز حجّة الأنظمة القوميّة، إذ تجري المجادلة دوماً على الأرض التي رسمتها. وهذا ما يوفّر أحد الأسباب وراء تعاطف «المناهضين للإمبرياليّة» مع مناهضة الأنظمة، لا مع «مناهضة» معارضيها. فالأخيرون يجدون أنفسهم أمام مهمّة مستحيلة من فرز المعاني والدلالات الاستعماليّة وإحداث تغييرات فيها لا يحتاج إليها النظام «المناهض للإمبرياليّة».

لا شكّ في أنّ غيمة قوميّة كثيفة وغيمة مذهبيّة أكثف منها تُسألان عن هذا التلبّد. فهما تفسّران هذا القصور الكبير، وهذا الميل إلى التحقيب والتأريخ بموجب الهوى السلطويّ الذي استهدفته الثورات وتستهدفه، بعدما استهدف الشعوب عقداً بعد عقد. لكنّ المرجّح أنّ نقصاً كبيراً سيبقى يلاحق طلب الحرّيّة ما لم يتمّ التغلّب على النقص في وعيها وقراءتها لتاريخ المظالم النازلة بها.

نقلا عن ایلاف