رياح المنطقة لم تأت بما تشتهيه سفن أردوغان، فبدا مرتبكا في إدارة أزمة تركيا مع روسيا، ومتلعثما في مقاربة ملف العضوية داخل الاتحاد الأوروبي.
يكاد المراقب يستنتج أن السجال الحاصل هذه الأيام بين تركيا والولايات المتحدة حول مسألة قرار واشنطن بتقديم تسليح نوعي إلى “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) هو من لوازم التحضير للقاء الذي سيجمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأميركي دونالد ترامب في الزيارة التي سيقوم بها الأول إلى واشنطن من 16 إلى 17 من شهر مايو الجاري.
وبين أنقرة وواشنطن علاقة تميل إلى اللبس لم تتجاوز ما شابها في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. مازالت تركيا تعاتب حلفاءها الأطلسيين على سلوكيات لا تليق بالحلف والحلفاء، ومازال بقية أعضاء حلف الناتو يتعاملون مع تركيا بصفتها “خطأ بيولوجيا” تم ضمه إلى الحلف الغربي في لحظة تاريخية غابرة لم تعد ظروفها متوفرة هذه الأيام. وما بين الموقفين يسعى الطرفان إلى الإمعان في التكاذب، فيما تتوسل أنقرة تعايشا صعبا بين ميولها الشرقية وذكرياتها الغربية.
يكتشف الرئيس التركي يوما بعد آخر عجزه عن إنتاج دينامية تركية مستقلة بإمكانه مقارعة العالم بها. ترنّحت أسطورة حزب العدالة التنمية في حكم البلاد منذ أن أغرى “الربيع العربي” أردوغان بإمكانية استعادة بلاده عثمانية منقرضة، وإمكانية استدعاء السلطنة وحكم السلطان ليطل بها على كل المنطقة. عوّل رجل تركيا القوي على انتشار نفوذه داخل الإقليم ليعيد التموضع في المشهد الدولي العام. بيد أن رياح المنطقة لم تأت بما تشتهيه سفن أردوغان، فبدا مرتبكا في إدارة أزمة تركيا مع روسيا، ومتلعثما في مقاربة ملف العضوية داخل الاتحاد الأوروبي، وينتهج هذه الأيام ارتجالا سطحيا في صيانة علاقة أنقرة مع واشنطن.
لا تستطيع تركيا، أيّا كان حاكمها، أن تقبل بقيام كيان سياسي كردي جنوب البلاد. لم تقبل ذلك في شمال العراق ولن تقبل ذلك في شمال سوريا. ولا تستطيع تركيا بحكومتها ومعارضتها، بإسلامييها وعلمانييها، أن تمرّر نموذجا في العراق وسوريا يصبح سابقة للأكراد في تركيا. وعلى هذا يملك أردوغان شبه إجماع وطني داخلي للذهاب بعيدا لإفشال ذلك الكيان الذي يسعى للتشكل في شمال سوريا. ومع ذلك فالظاهر أن تركيا – أردوغان لا تملك إمكانات تعطيل ما يحظى، وحتى إشعار آخر، برعاية الحليفين في واشنطن وموسكو.
يحتاج الرئيس التركي إلى رفع مستوى الاعتراض الصوتي إلى مدياته القصوى. لكنه يدرك أن الـولايات المتحدة وروسيا اللتين تختلفان في ملفات عديدة، بما في ذلك الملف السوري، مجمعتان على خطب ودّ أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي، ويبدو أنهما عازمتان على منع أي ضرر قد تسببه مغامرة عسكرية تركية ضد “قوات سوريا الديمقراطية” التي تقودها قولا وفعلا على نحو شفاف لا لبس فيه، “وحدات حماية الشعب” (ب ي د) التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي.
لا تملك الولايات المتحدة ترف الوقوف عند حساسيات الحليف التركي. تدرك واشنطن صعوبة القبول إقليميا بقيام دولة كردية في شمال سوريا لنفس الأسباب التي منعت قيام الدولة، حتى الآن، في شمال العراق
لا ينفي التيار الكردي السوري الذي يستهدفه الغضب التركي علاقة روحية وفكرية وتنظيمية وقومية مع حزب العمال الكردستاني (بي كا كا) وقيادته في جبال قنديل في شمال العراق. يدافع هذا التيار عن أجندته المحلية وينفي أي تمدد يلاقي أكراد “البي كا كا” في أجندتهم التركية. بيد أن في هذا النفي تكتيكا لا يمكن أن تبتلعه القيادة التركية، كما أن في سلوك “الب ي د” ما لا يمكن إدراجه إلا في الخنادق المضادة لأنقرة. تناقض حزب الاتحاد الديمقراطي مع المعارضة السورية فلم يصنف معارضا، واقترب الحزب من أجندات دمشق دون أن يصنف مواليا. وفي الحالتين لا يمكن لأنقرة أن تقبل بحراك أكراد شمال سوريا، كما قبلت ورعت وباركت وتعاونت وتحالفت مع حراك الأكراد في شمال العراق.
لا تملك الولايات المتحدة ترف الوقوف عند حساسيات الحليف التركي. تدرك واشنطن صعوبة القبول إقليميا بقيام دولة كردية في شمال سوريا لنفس الأسباب التي منعت قيام الدولة، حتى الآن، في شمال العراق. لم تسمح الظروف والمصالح الدولية أن يقيم “سايكس بيكو” دولة للأكراد على منوال الدول التي نشرها واستحدثها في المنطقة، وليس في أجندة واشنطن “تصويب” تلك “المظلومية التاريخية”. وربما من قساوة القدر أن الأكراد الذين لطالما تم استخدامهم على مر التاريخ وقودا داخل ورش تصفية الحسابات الدولية الكبرى مع سوريا والعراق وإيران وتركيا، قد يكتشفون لاحقا أنه لم تخرج الرعاية الدولية لهم عن تلك القاعدة، وقد يعاد ترتيب حجمهم وحراكهم وتقويض طموحاتهم إذا ما تراجعت تلك الحسابات.
يعترف الأميركيون بأنهم ليسوا متيّمين بأكراد سوريا على وجه الخصوص لكنهم لم يجدوا عنهم بديلا لمكافحة تنظيم داعش في الميادين البرية التي لا يريدون التورّط فيها. ويكرر الأميركيون أنهم عرضوا الأمر على فصائل سورية معارضة فرفضت أن تنحصر المواجهة مع داعش دون نظام دمشق. فيما كشفت المواجهة الشهيرة (أكتوبر 2015) بين السيناتور الجمهوري الأميركي ليندسي غراهام مع كل من وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر ورئيس الأركان الأميركية المشتركة جوزيف دنفور عن الموقف الأميركي الحقيقي الذي لا يريد رحيل بشار الأسد. وحدهم أكراد “الب ي د” كانوا جاهزين للعمل تحت المظلة الأميركية ووفق أجندة واشنطن دون أن تكون لهم حسابات ضد نظام دمشق أو مع معارضيه.
وقد تفصح لغة الميدان عن حوافز الولايات المتحدة في دعـم حلفائها الأكراد ولو كره الكارهون لدى الحليف التركي. ارتبكت قوات المعارضة السورية التي كانت تعمل تحت رعاية الجيش التركي ضمن حملة “درع الفرات” في إنجاز سريع ونظيف لتحرير مدينة الباب. بالمقابل أظهرت قوات “قسد” و“الب ي د” فعالية ميدانية وكفاءة مرتفعة في التقدم لتحرير محافظة الرقة والإعلان عن إسقاط مدينة الطبقة بشكل كامل بعد 50 يوما على بداية الهجوم. وبين الخيارين بدا للولايات المتحدة أنها لا يمكن أن تسقط الرهان عن حصان رابح، وأن أولويـاتها للقضـاء على “داعش” في سوريا لا تتحمل ترددا ولا تبديلا لهويات الجنود.
بدا أن أنقرة أكثرت وأفرطت في الصراخ للحصول على تراجع أميركي يحفظ ماء الوجه. بدا أيضا أن انخراطها في خطط إقامة “مناطق تخفيف التصعيد” التي أعلنت على عجل في “أستانة 4” كان يستهدف صيانة شرعية وجودها الدائم داخل التفاهمات الميدانية والأمنية وكراعية مباشرة لإحدى تلك المناطق على الأقل من جهة، كما يستهدف من جهة أخرى إظهار نفسها كشريك أساسي ومفصلي في أي تسوية وأي صفقات قد يتوصل إليها الروس والأميركيون في غفلة طارئة.
قدمت واشنطن سرابا كافيا لإحداث استدارة تركية هزيلة. يبشّر رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم الأتراك من لندن بأن الولايات المتحدة أبلغت تركيا بأن “وحدات حماية الشعب” الكردية لن تبقى في المنطقة بعد عملية تحرير مدينة الرقة في سوريا. والأمر بالنسبة إليه لا يعدو كونه “خطأ” يأمل في أن يجري تصحيحه في قمة أردوغان- ترامب، فيما يكتفي الرئيس التركي نفسه بلفت النظر إلى أن “تسليح الوحدات الكردية السورية يضر بالعلاقات مع الولايات المتحدة”.
لا يمكن في علم السياسة الإيمان بأن الأكراد الذين يقاتلون لتحرير الرقة سيغادرون مجانا دون مقابل سخي. ولا يمكن في علم المنطق التصديق بأن الأتراك صدقوا وعد واشنطن وهي التي لطالما وعدت ولم تف بالوعود.
لكن ما يمكن الإقرار به هو أن تركيا لا تملك أوراقا كثيرة في هذا الملف، وأن التوتر الذي يسود علاقاتها مع روسيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، معطوف على ذلك مع عواصم كثيرة في الشرق الأوسط، يجعل من أنقرة أكثر ميولا لتصديق ما لا يصدق.