العالم بأجمعه يحتاج إلى تسوية للمسألة الفلسطينية لن تتم طالما بقي بنيامين نتنياهو رئيسا لحكومة إسرائيل، وقد يطرح سؤال نفسه عما إذا كانت تتطلب خروج هذا الرجل من حكم ذاك البلد. وهذا يتطلب نقاشا آخر.
لم يعد نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس أولوية داخل أجندة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه الدولة العبرية. لا يعني أن الأمر لم يعد واردا، إلا أن أدوات مقاربة ترامب لمنطقة الشرق الأوسط برمتها تستدعي إعادة هذا الوعد الانتخابي إلى الخزائن، بما يؤجل هذا الاستحقاق، أو يجعله جعجعة لطالما رددها رؤساء سابقون قبل ولوجهم أبواب البيت الأبيض.
بيد أن أصحاب القرار في إسرائيل قلقون من مفاجآت قد يخرج بها هذا الرئيس الأميركي الجديد الذي بالغ في الانحياز إلى إسرائيل حين كان مرشحا، والذي وضع داخل الطاقم المكلف بإدارة ملف الصراع العربي الإسرائيلي شخصيات معروفة بدعمها غير المشروط لإسرائيل ابتداء من صهره جاريد كوشنر، أو موفده للنزاعات الدولية جازون غرينبلات، أو سفير الولايات المتحدة في إسرائيل ديفيد فريدمان.
ومصدر القلق الإسرائيلي نابع من الطباع الانفعالية لترامب الذي قد يطالب بأن ترد له تل أبيب ثمن هذا الانحياز، ومن استراتيجيته الجديدة في الشرق الأوسط التي تقترب من حلفاء عرب وتبتعد عن إيران بما يتطلب مرونة إسرائيلية لا تتسق مع منهج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفائه في أقصى اليمين.
يكرر ترامب وإدارته لازمة أميركية لا نشاز بها حول دعم إسرائيل المطلق والسهر على حماية أمنها. اختلفت نظرتيْ إسرائيل والولايات المتحدة حول مسألة الأمن هذه، حين رأى نتنياهو أن ضرب إيران عسكريا هو الخيار الصحيح لحماية أمن إسرائيل، فيما رأت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما أن حماية هذا الأمن يتحقق من خلال الاتفاق النووي الشهير.
لكن مقاربة ترامب للمسألة الإيرانية تكاد تتّسق مع الفلسفة الإسرائيلية، على ما يسحب من نتنياهو نفسه لوازم اعتراضه التي اخترق بها الكونغرس في الولايات المتحدة.
تستند استراتيجية الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط على قاعدتين: مكافحة تنظيم داعش وتقويض النفوذ الإيراني في المنطقة. وفي مقاربة هاتين القاعدتين تطفو المسألة الفلسطينية كمحدد أساسي لا يمكن إغفاله.
فإيران تنسج شبكتها في الشرق الأوسط على الزعم بأنها قوة دفاع عن فلسطين وندّ للمحتل الإسرائيلي، فيما ما برحت الجماعات الجهادية، أيا كانت تسمياتها، تدعي الدفاع عن مظلومية مرتبطة باحتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل منذ 69 عاما. وعليه يصعب على واشنطن تسويق استراتيجيتها وحشد حلفائها حولها دون توفير ورش تزعم، على الأقل، اهتمامها بإيجاد حل للمسألة الفلسطينية.
وفق ذلك، تقصّدت واشنطن توفير استقبال حار وبمستوى عال للرئيس الفلسطيني محمود عباس في واشنطن أوائل الشهر الجاري، فيما تقصّد ترامب أثناء اجتماعه مع أبومازن (3 مايو) إظهار ود لا يتفق مع خطابه السابق المندد بالسلوك الفلسطيني والمدافع عن مظلومية الإسرائيليين. وفيما يردد الإسرائيليون شكواهم من عدم وجود شريك فلسطيني للسلم، فإن الترحيب الأميركي بعباس أرسل إشارة اعتراف بهذا الشريك الفلسطيني للسلم في الشرق الأوسط.
غير أن واشنطن لم تكن تظهر ودا لعباس بسبب غيرتها على حقوق الفلسطينيين، بل إن الأمر جاء في معرض التحضير لأول رحلة ستحمل ترامب خارج البلاد بصفته رئيسا.
أراد ترامب الإطلالة على العالم بصورة تبدد تلك التي ظهر بها أثناء حملته الانتخابية، وحتى في الأيام الأولى لولايته الرئاسية، ليقدم صورة جديدة يستطيع أن يقارب بها العالم، غربا وشرقا، بصفته قائدا للعالم وراعيا للسلم فيه.
على أن زيارته للسعودية وإطلالته من هناك على دول الخليج كما على العالميْن العربي والإسلامي، هما أكثر ما دفع ترامب ومستشاريه إلى تصويب الأداء بشأن الموضوع الفلسطيني.
بدا أن ترامب في استقباله لعباس يعيد الاعتبار لحل الدولتين بعد أن اعتبره قبل ذلك خيارا غير ملزم، كما يقترب من المقاربة العربية للحل، والتي أُعيد إنعاشها وتعويمها (مبادرة الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز) في مؤتمر القمة العربي الأخير (29 مارس الماضي) في البحر الميت في الأردن.
فإذا ما أراد العرب نفخ شعلة القضية الفلسطينية بعد أن خفت وهجها في موسم براكين المنطقة، فذلك أنهم اعتبروا أن صحة التحالف الأميركي العربي تتطلب احتراما لهواجس المنظومة السياسية العربية برمتها.
يعوّل الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وفق خطابه في واشنطن، على شخص الرئيس ترامب وطباعه في إحداث نقلة نوعية للخروج من مأزق الصراع مع إسرائيل.
بيد أن كواليس القيادة الفلسطينية التي راكمت تجارب مع الإدارات الأميركية المتلاحقة لا تفرط في التفاؤل ولا تبهرها البهرجة الأميركية اللافتة في استقبال أبومازن. ومع ذلك فإن الفلسطينيين يثمنون أن الرئيس الأميركي سيلتقيهم من جديد في زيارته للمنطقة، ما بإمكانه إطلاق دينامية فشلت في تفعيلها إدارة أوباما السابقة.
على أن وجود العرب والإسرائيليين في خندق واحد ضد السلوك الإيراني وبرعاية أميركية يرتجل مقاربات غير مسبوقة. بقي التواصل العربي الإسرائيلي خجولا يتم من خلال قنوات غير رسمية.
وحتى علاقة إسرائيل مع الأردن ومصر، أي الدولتين اللتين وقعتا معاهدتي كامب دايفيد ووادي عربة، لا تعدو كونها بروتوكولية شكليا لا ترقى إلى مستوى ما كانت تصبو إليه إسرائيل.
ورغم تقاطع المصالح العربية الإسرائيلية في مواجهة إيران، إلا أن النظام الرسمي العربي ما زال ممتنعا عن أي “تطبيع″ مع إسرائيل، حتى في هذه المسألة، قبل أن يجري تقدم نوعي لافت داخل الملف الفلسطيني.
سيسمع دونالد ترامب في السعودية كلاما سعوديا خليجيا عربيا إسلاميا يضع الرئيس الأميركي في ما تراه المنطقة خلفية لتضخّم وَرَمَيْ “داعش” وإيران، بما في ذلك وظيفة المسألة الفلسطينية في ذلك.
يتسرّب من الإدارة الأميركية ما يشي بقناعات جديدة تربط ما بين ظهور داعش وسياسات بغداد التي تسيطر عليها طهران، كما الربط بين داعش ووجود نظام دكتاتوري مستبد في دمشق، ناهيك عن تواطؤ هذه العواصم مجتمعة في ولادة تنظيم أبي بكر البغدادي.
بيد أن تلك الإدارة، كما الإدارات السابقة، ما زالت ترفض الربط بين ظهور الإرهاب الجهادي، بنسخاته المتعددة، ودوام الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. وعليه سيكون صعبا على العالم العربي توقّع إحداث انقلاب في واشنطن يقرأ مآزق المنطقة بأبجدية جديدة، بيد أن أمر التقدم داخل مسألة فلسطين بات مطلوبا في واشنطن كمفتاح أساسي لإعادة الإمساك بالشرق الأوسط الذي بات موزّعا بين داعش وروسيا وإيران.
يكشف زعيم المعارضة الإسرائيلية يتسحاق هرتسوغ أن مبعوث ترامب لعملية السلام جيسون غرينبلات أبلغه بشكل واضح، أن “الولايات المتحدة مصممة على التوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين”. تحتجّ إسرائيل لقول دبلوماسي أميركي يعُد لزيارة ترامب إلى القدس إن الحائط الغربي (حائط المبكى) في المدينة القديمة جزء من الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل. يعلن مستشار الأمن القومي الأميركي، الجنرال هربرت ريموند مكماستر، أن الرئيس الأميركي سيزور وقرينته الحائط الغربي دون مرافقة أي مسؤولين إسرائيليين.
يريد ترامب تجنب أي دلالات سياسية تتعلق بالسيادة على ما يطلق عليه اسم “حائط المبكى”. بيد أن إسرائيل لا تسمع إلا نفسها. فوزيرة العدل الإسرائيلية إياليت شاكيد، لا يعنيها إلا حث نتنياهو على إبلاغ ترامب “أن لا فرصة لقيام دولة فلسطينية في هذه المرحلة”.
في محطات ترامب في السعودية والأراضي الفلسطينية، كما في بروكسل (الحلف الأطلسي) وصقلية (مجموعة الدول السبع الكبرى) والفاتيكان سيكتشف الرئيس الأميركي مزاجا دوليا بات ملحا في إحداث نقلة نوعية تفكك مأزق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.
قد تكون الخلاصة أن العالم بأجمعه يحتاج إلى تسوية للمسألة الفلسطينية لن تتم طالما بقي بنيامين نتنياهو رئيسا لحكومة إسرائيل، وقد يطرح سؤال نفسه عما إذا كانت تتطلب خروج هذا الرجل من حكم ذاك البلد. وهذا يتطلب نقاشا آخر.