لا إصلاحيون في إيران.. نعم لرئيس محافظ! / محمد قواص

تكشف تجربة الاصلاحيين في إيران، في شخص حسن روحاني وفي شخص محمد خاتمي سابقا، هزال وظيفة الاصلاحيين وزيفها.


لا يختلف مشهد الانتخابات الرئاسية في إيران عن ذلك الذي جرى وسيجري في بلدان أوروبا البعيدة. فرصد المزاج الشعبي الإيراني سيرسم ملامح السلطة المقبلة في إيران لجهة تحديد مستقبل نظام ولاية الفقيه في البلاد، تماما كما سيحدد المزاج الشعبي في فرنسا حاليا أو بريطانيا وألمانيا لاحقاً طبيعة النظام السياسي الأوروبي برمته. لكن ما يختلف هو أن الجدل الراهن داخل إيران يجتر نفسه ويكاد يكون مملا لا يتجاوز السقوف المرسومة بعناية، فيما تكشف الانتخابات الفرنسية، وقبلها الأميركية وقبل ذلك استفتاء البريكست البريطاني، عن إنقلاب في القيم والحجج وقضايا النقاش، على نحو أحدث وسيحدث تحولات لافتة داخل كل المنظومة الغربية.

والحقيقة أن من يزور إيران سيكتشف ذلك البون الشاسع بين ما لا نعرفه عن النقاش المجتمعي الداخلي وذلك الذي تخرج به التقارير التي تغطي الجدل الانتخابي الحالي البليد. ثم إن الثنائية التقليدية بين محافظين وإصلاحيين، ورغم ضراوة تنافسها وخصومتها، لاسيما في موسم الانتخابات، تحجب حقيقة أنها متواطئة داخل نظام الجمهورية الإسلامية الذي يحدد الملعب واللاعبين وقواعد اللعب، بما يقصي أي حيوية حقيقية ينتجها التطور الطبيعي للمجتمعات.

ولئن شكلت “الحركة الخضراء” عام 2009 ضد نتائج الانتخابات التي أعادت محمود أحمدي نجاد رئيسا، الأعراض الأولى لمحاولة تمرد المجتمع على نظامه السياسية، فإن سهولة وأد هذا التحرك كشف جلافة السلطة في الإجهاز على ما اعتُبر خروجاً على اجماع.

ويكاد المراقب يستنتج أن الإيرانيين كما غير الإيرانيين يتابعون الانتخابات الراهنة بصفتها حدثاً يجري عند الآخرين. وإذا كان الخارج يتأمل الحدث بصفته شأناً إيرانيا داخليا، فإن نقاش الأمر مع المواطنين الإيرانيين يكشف أنهم، ورغم انخراطهم به بصفتهم ناخبين، يعتبرونه جدلاً داخل هذا الداخل يرتبط بمنظومة إنتاج السلطة داخل هذه السلطة، دون أي اختراق يرد من خارج أسوارها.

وإذا ما كانت البلدان المحيطة بإيران معنية بمآلات هذه الانتخابات دون التعويل عليها كثيراً، وإذا ما كان الأميركيون والأوروبيون (والروس) يتأملونها ليحددوا الوجهات التي ستقارب بها طهران العلاقة مع العالم، فإنه سيصعب في المضمون استنتاج أي فروقات كبرى في مطالعات المحافظين والإصلاحيين في شأن ما تريده إيران من هذا العالم.

لا يعير المراقبون للشأن الإيراني كثير اهتمام لمواقف المحافظين بزعامة المرشد علي خامنئي. فخطاب التصلب، حتى في عزّ المفاوضات بين طهران ودول مجموعة الخمسة زائدا واحد، بقي عالي النبرة لدواعي الاستهلاك المحلي والإقليمي. فزعامة إيران لـ “تيار المقاومة” بامتداداته الدولية المزعومة التي قد تلامس دولا مثل فنزويلا أو بوليفيا وكوبا مثلا، يتطلب شططا أبجديا شعبويا لا يمت بصلة إلى المداولات التقنية الدبلوماسية الواقعية، والتي أفضت بالنهاية إلى وقف إيران لأي برنامج يؤدي إلى امتلاك السلاح النووي.

وإذا ما عوّلت الولايات المتحدة في عهد الرئيس باراك أوباما على هذا الاتفاق لإحداث صدمة داخل إيران لتقويض التطرف وتعزيز الاعتدال، فإن واشنطن كما عواصم الغرب الأخرى أظهرت سذاجة في فهم المنظومتين السياسية والإيديولوجية التي يعمل النظام الإيراني وفق شروطهما.

أظهرت مناظرة الجمعة الماضي التلفزيونية، وهي الأولى من ثلاث مناظرات، بين المرشحين الستة، كمّ المسائل والقضايا التي تؤرق إيران والإيرانيين. بيد أن المهاجمين والمدافعين استخدموا حججا تقنية وتبادلوا الاتهامات اللاذعة دون أن يلامس الجدل المحرمات الكبرى التي يفرضها الولي الفقيه في مقاربة السياسات الخارجية لإيران.

والملفت في هذه المناظرة أن المراقب يكتشف عادية ظواهر الفساد وشفافية الحديث عنها داخل دولة يفترض أنها جمهورية إسلامية تعمل بأحكام الشريعة وأخلاق الدين. وأن القوى السياسية التي يحق لها ممارسة السياسة وارتكاب ذلك الفساد مرخّص لها من مؤسسات دستورية لا تحيد عن المعايير التي تفرضها ولاية الفقيه. وأن حديث الفساد والمحسوبية وفضيحة العقارات الشاغرة والمخصصة للمقربين من هذا وذاك يتم تناولها على شاشات التلفاز وينتهي تداولها بانتهاء العرض التلفزيوني دون أي تبعات ولا ملاحقات.

يمتلك المرشحون المحافظون، وخصوصا أبرزهم، إبراهيم رئيسي ومحمد باقر قاليباف، الحجج تلو الحجج لاتهام الرئيس الإيراني، المصنف معتدلا والمحسوب على الجناح الإصلاحي، حسن روحاني، بفشله بالوفاء بوعوده التي أطلقها في حملة انتخابات عام 2013. يعتبر المحافظون أن رفع مستوى الانجازات الاقتصادية هو مهمة روحاني وحكومته، وأن عجزه عن تحسين مستوى معيشة الإيرانيين على الرغم من إبرام إيران للاتفاق النووي، يمثل إخفاقا يغمز من قناة نجاعة القبول بمبدأ المفاوضات ومبدأ الاتفاق.

غير أن رد روحاني كما رد نائبه اسحق جيهانغيري، المرشح أيضا عن تيار الاصلاحيين، ورغم ضراوته، لاسيما بالنسبة للأخير، ينحصر بكيل اتهامات بيتية مضادة لا تتناول مسؤولية النظام السياسي الإيراني في عزل البلد عن جيرانه كما عن النظام الدولي، وهي عزلة تقف دون لبس وراء أزمة الأداء الاقتصادي للبلاد.

بعد 38 عاماً على قيام الجمهورية الإسلامية في إيران يتحدث المرشح المحافظ محمد قاليباف عن أن 11 مليونا من الإيرانيين يعيشون في بيوت الصفيح، فينبري المرشح المحافظ الآخر إبراهيم رئيسي ليصحح الرقم ويؤكد أنه 16 مليونا.

يكتشف المراقب الأجنبي هذه الفضيحة المأساوية لنظام صدّع رؤوس العالم بحديثه عن الدفاع عن المحرومين والمستضعفين. وبعد كل هذه العقود التي تلت الإطاحة بنظام الشاه، يتعايش الايرانيون هذه الأيام ببلادة مذهلة مع نقاش حول الفساد وبيوت الصفيح. وفيما يسهل على أي مواطن التساؤل عن الحكمة من انفاق ثروات إيران لتمويل أذرع الولي الفقيه في اليمن والعراق وسوريا ولبنان ومناطق بعيدة أخرى عن إيران، فإن الأمر يصعب على روحاني ونائبه جيهانغيري، بحيث يظهر أن أمر ذلك لا يخضع للنقاش وان توطوءا كاملاً يربط الرئاسة بالولي الفقيه في ما يمدد من نفوذ إيران في الخارج ومن مساحة مدن الصفيح في الداخل.

ورغم أن النقاش تناول مسؤولية الدولة (ورأس الدولة) في الهجمات التي تعرضت لها الممثليات الدبلوماسية السعودية في إيران، ورغم أن هذا الجدل سلّط المجهر على تعارض حكومة روحاني مع دولة الولي الفقيه، ورغم أن السجال في هذا المجال يعكس خلافاً داخليا بنيويا في مقاربة علاقات طهران الخارجية، خصوصا مع الرياض، إلا أنه لم يصدر عن المرشحيْن الاصلاحيين ولا عن الرئيس روحاني وحكومته قبل ذلك ما يمثل وجهة نظر مخالفة لرؤى السيد علي خامنئي ومؤسسات الحرس الثوري، لا بل أمعن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريفي في كيل الانتقادات للرياض وحلفائها وانتقاد موقف الخليج وحلفائه في شأن اليمن وملفات المنطقة الأخرى، كما سعوا عبثا لاختراق الإجماع الخليجي عبر تسلل ظريفي نحو عمان او الكويت او قطر، على نحو يشي بمدى تسخير الحكومة، المفترض أنها إصلاحية، مواهبها في خدمة الخط المحافظ المتشدد للدولة (ورأس الدولة).

بالمحصلة تكشف تجربة الاصلاحيين في إيران، حتى في شخص محمد خاتمي سابقا، هزال وظيفة الاصلاحيين وزيفها. تثبت تلك التجارب، وآخرها تلك في رئاسة روحاني أن أمر البلاد، وفق دستورها، في يد ولي الأمر الحقيقي، الخميني سابقا وخامنئي حالياً وأي مرشد بعده، وأنه من الأفضل للعالم أن يكون الرئيس المقبل محافظاً بحيث يتم التعامل مع الوجه الحقيقي لإيران، دون قفازات ناعمة تمثلها الوجوه الاصلاحية المزعومة. وعلى أية حال فإن النظام السياسي يعرف من هم الاصلاحيون الحقيقيون فيودعهم السجون ويفرض عليهم الإقامة الجبرية ويترك لأشباههم مناصب الرئاسة ووزارتها.

لا يبدو من أعراض المناظرة التلفزيونية الأولى أن الحملة الانتخابية تشي بما يقطع ملل المراقبين. يظهر خواء النقاش امتهان النظام السياسي لسياسة النعامة التي لا تريد أن تقر بأنواء العالم، لكنها تظهر أيضا عقماً سياسيا عاجزاً على اجتراح أفكار خلاقة، وتكشف عن شلل يمنع تجديد الطبقة السياسية وتنقية دمائها. في ذلك ما يشي أن النظام السياسي برمته بات متقادماً، وأن قصوره عن تحمل توسيع هامش التيارات والقبول باختلافها، يقود إلى التحصّن خلف متاريس أيديولوجية لا يبدو أنها ستكون وحدها قادرة على الصمود أمام الطوق الإقليمي الدولي الذي يطبق وسيزداد اطباقا يوما بعد آخر.

لكن تأملا أكثر عمقاً يقود إلى استنتاج أن الإيرانيين حكاماً ومحكومين يشعرون أن شيئا ما يُعد في المنطقة قد يقلب وضع إيران كله، بحيث تبدو تلك الانتخابات تفصيلا تافهاً وجلبة لا صدى لها.

ميدل ايست أونلاين