حديث حول المواطنة!/فهد المضحكي


هناك من يرى أن تجربة الدولة العربية الحديثة خلال العقود الماضية تشير إلى أنها لم تنجح في ترسيخ قيم الحداثة بشكل عام وقيم المواطنة بشكل خاص بوصفها مصدر السلطة وشرعيتها، في حين ترى إحدى الدراسات ان تقارير التنمية العربية أطلقت على الدولة العربية الحديثة اسم «دولة الثقب الأسود» في تعبير صريح منها على حالة الفشل في بناء الدولة بمفهومها ووظيفتها الحديثين، وقد عزت هذه التقارير ذلك إلى أسباب متنوعة، كان في مقدمتها طبيعة النشأة التاريخية الاستعمارية، واستمرار حالة التبعية الخارجية، وفقدان الاستقلال بمفهومه الشامل، بالاضافة إلى غياب العقد الاجتماعي وتهميش فكرة الإرادة العامة الحرة لأعضاء المجتمع، واستئثار القوى الحاكمة بالسلطة.
ويرى د. خلف جراد يرتبط مفهوم المواطنة وممارستها ارتباطًا كبيرًا بالدولة، او بالأحرى درجة تطور الدولة وتطور مؤسساتها وآليات عملها، ودرجة انفتاحها على المجتمع وتواصلها الشامل معه، وبالتالي، فإن الحديث بشأن المواطنة لا يستقيم مع الدولة، التي تقوم على الأسس القبلية او الأسس الطائفية او الأسس العنصرية العرقية، واستنادًا إلى ذلك – نقلاً عن النور السورية – فإذا كانت – على حد رأيه – الإشكالية المجتمعية العربية الراهنة تمثل تاريخًا طويلاً من (الفتن) الاضطرابات و(المنازعات) الأهلية الداخلية قبل ان تتدخل القوى الاستعمارية لتؤجّجها او لتستغلها فإن هذه النزاعات والصراعات و(الفتن) مازالت (تعيد إنتاج) ذاتها بأشكال وتجليات مختلفة، واحيانًا بأشكال متماثلة متكررة، سواء في الصراع القومي او في الصراع ما دون القطري وما دون الوطني الذي أصبح اليوم سمة المرحلة الراهنة بين القبائل والطوائف والمذاهب، سواء عند انحسار السلطة المركزية او تحللها او ضعفها، او عندما تسنح لها الفرصة بالانبعاث والنهوض في إطار التجربة التعددية الديمقراطية الفتية في بعض الدول العربية، بحيث صار الخطر على التوجهات والتحولات الديمقراطية في تلك الدول منبثقًا من مثل هذه التنافرات الأهلية المنفلتة والمتنامية نحو التنازع والتصادم، إضافة إلى ما هو آتٍ من ممارسات الأنظمة والحكومات القائمة، بل ان تلك الجماعات والتجمعات والتكوينات (الاثنية والطائفية والمذهبية والعشائرية.. الخ) ذات التوجهات الرجعية والظلامية والطائفية والمذهبية، صارت تشكل المسوغ والحجة للسلطات الحكومية، لقطع الطريق على النمو الديمقراطي في البلدان العربية!.
وبالتالي، فإن الانسداد الخطير، الذي وصل اليه النظام الاجتماعي – السياسي في المجتمع العربي المعاصر هو انسداد يعبر عن نفسه بأشكال وتجليات يومية واسعة ومتداخلة وخطيرة في بعض الأحيان (كالقتل على أساس الهوية الطائفية او المذهبية) والإعلان عن وجودها ونزعاتها الاستئصالية والإقصائية للأطراف الأخرى، فأصبح السكوت عن هذه النزعات الانتحارية التدميرية او التستر عليها – تحت أي شعار ولأي اعتبار – يشكل هربًا من مواجهة الواقع، وعجزًا فكريًا وعمليًا عن التعاطي مع معطياته، ان لم نقل تواطؤًا ضمنيًا مع هذه التكوينات والاتجاهات التفتيتية والتدميرية!.
وفي هذا الصدد أشار جراد إلى غياب روح المواطنة وضعف وعي المجتمع بهذه المسألة الاساسية، يحوله إلى مجرد ساحة لمجموعات وتكوينات قبلية وعشائرية وطائفية ومذهبية واقوامية متنافرة، سرعان ما تتصادم مع بعضها في أول امتحان وطني، ما يهدد وجود الكيان السياسي – الاجتماعي القائم برمته، لم يعدْ ممكنًا الحديث عن المواطنة بمعزل عن المجتمع المدني والدولة المدنية الحديثة، دولة الحق القانون والمؤسسات.
وإذا كانت المواطنة تعني المساواة القانونية بين جميع المواطنين، فإنه من الطبيعي – كما تقول الباحثة الشيماء عبدالسلام – يترتب على المواطنة عدد من الحقوق والواجبات يمكن رسمهم في أربع قيم أساسية، وهي الحرية والعدالة والمساواة، والتي تشكل الضمانة للجميع، وهي المسؤولية الاجتماعية من الفرد تجاه المجتمع.
وفي ضوء ذلك كلما كانت قدرة النظام كبيرة على مواجهة مشكلات المواطنة وإيجاد الحلول لها، وكفالة تتمتع أكبر عدد ممكن من المواطنين به، زادت قدرته على الاستمرار، وتدعمت شرعيته السياسية، واتسع نطاق الرضا الاجتماعي عنه، والعكس صحيح.
فالحديث عن المساواة هو أن يكون الأفراد المكونين لمجتمع ما متساوين في الحقوق والحريات والتكاليف والواجبات العامة، وألا يكون هناك تمييز في التمتع بها بينهم بسبب الجنس او الأصل أو اللغة أو العقيدة. وفي هذا الإطار فمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص الذي تتحدث عنه عبدالسلام وغيرها من المتخصصين في الشأن القانوني والحقوقي هو أحد المداخل التي تضمن حق جميع المواطنين في المشاركة في تدبير الشؤون العامة بمعناها الواسع، ويصبح «المواطنون» هم فقط أصحاب الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وهم يتحملون في الوقت ذاته المسؤولية عن القيام بواجباتهم وأداء ما عليهم على أفضل ما يكون، وتلك هي المواطنة الفعَّالة في المجتمع، وهي باعتبارها الرابط الاجتماعي والقانوني بين الأفراد والمجتمع السياسي الديمقراطي تستلزم إلى جانب الحقوق والحريات مسؤوليات والتزامات مهمة بدونها يفشل المشروع الديمقراطي