ما بين باراك أوباما ودونالد ترامب بون شاسع في الشخصية والطباع ومقاربة شؤون الدنيا. وبين الرئيسين الاميركيين، السابق والحالي، اختلاف في الرؤى كما في أسلوب التعامل مع ملفات العالم يرتبط بالكيفية التي يفهم بها الرجلان موقع بلدهما في قضايا العالم الكبرى. ففيما ارتضى أوباما للولايات المتحدة موقعاً مراقباً مواكباً للأزمات يميل نحو الانكفاء، يعيد ترامب بلاده إلى موقع الزعامة الأولى الذي يقود، بالفعل لا برد الفعل، ورشاً تحدد خطوطاً للعالم كما تراه واشنطن.
فشل «الربيع العربي»، وتوقفت واشنطن نهائياً، منذ عهد أوباما، عن التبشير بالديموقراطية في العالم العربي أو إثارة خطط لشرق أوسط جديد. باتت الولايات المتحدة تتحدث عن «الاستقرار» كقيمة سابقة على ما عداها. انتهت الإدارة الأميركية الحالية إلى التعامل مع المنطقة بصفتها أمراً واقعاً لها ظروفها وشروطها وثقافتها وأسلوب عيشها وأسلوب حكم وحوكمة لها. قد تعكس هذه القدرية فشلاً أميركياً، لكنها تكشف أيضاً نضجاً في فهم المنطقة وقواعد العمل بها ومعها.
يطل حدث الزيارة التي سيقوم بها ترامب إلى السعودية كاشفاً عن فلسفة إدارته في الانخراط في العالم وليس في الشرق الأوسط فقط. ويقدم ذلك الحدث رواية واشنطن الجديدة، والبعيدة من تلك وفق «عقيدة» أوباما، إذ يتضح للمراقب انقلاب الأبجديات الأميركية في تقديم نصوصها الراهنة والمقبلة داخل المشهد الدولي العام.
أن يختار ترامب السعودية كمحطة أولى في زياراته الخارجية كرئيس للولايات المتحدة الأميركية، فذلك يعني أنه يطرق باب العالم من موقع يعتبره أساسياً لمخاطبة حلفائه داخل الحلف الأطلسي وحلفائه داخل مجموعة الدول السبع المفترض أن يلتقيهم بعد ذلك. تعيد واشنطن البوصلة إلى معاييرها الأصيلة. فواشنطن تقود تياراً دولياً يستند على أحلاف تاريخية في الأمن (ناتو) والاقتصاد (G7)، وهي أعمدة للنظام الغربي برمته التي يعتمد عليها ترامب الرئيس بعد أن بدا مشككاً بها حين كان مرشحاً.
بكلمة أخرى تكشف «الدولة العميقة» في الولايات المتحدة التي التحق بها ترامب حين أصبح رئيساً بعد أن قدم نفسه متمرداً عليها حين كان مرشحاً، تكشف عن قواعدها وثوابتها وأولوياتها في العلاقات الاستراتيجية الكبرى. وتعيد هذه «الدولة» انعاش علاقات تاريخية بين واشنطن والرياض ليس فقط بصفتها من ثوابت السياسة السعودية الخارجية، بل بصفتها حاجة أميركية ترتبط بتوازن الأمن الاستراتيجي والسياسي للولايات المتحدة في العالم.
وتأتي مقاربة ترامب لتطيح بمداخل أوباما في التعامل مع العالم العربي. اعتبر الرئيس الأميركي السابق في بداية عهده أن التوجه للعالم الإسلامي يجري من خلال مخاطبة المسلمين من القاهرة وإسطنبول، فيما يصوّب ترامب هذه الوجهات ويرى في السعودية العنوان الطبيعي للمسلمين في العالم. في السعودية سيربط ترامب بلاده بالعالم الإسلامي برمته، مصغياً إلى العاهل السعودي كما إلى قادة دول مجلس التعاون الخليجي كما قادة من العالميْن العربي والإسلامي.
يرسل الرئيس الأميركي في زيارته السعودية مجموعة من الرسائل. أولاها احترام المملكة بلداً وشعباً وحكماً من دون أي موقف استعلائي ملقّن للدروس على الطريقة الاوبامية. ثانيتها أنه في «تاريخية» هذه الزيارة، وفق تعبير وزير خارجية الرياض، رسالة إلى إيران تعبّر عن خيارات أميركية جلية تزيل تماماً اللبس الذي شاب موقف الإدارة الأميركية السابقة حيال طهران. وثالثتها أن مكافحة الإرهاب المتمثل في تنظيم داعش تتطلب اتساقاً دولياً كاملاً مع مقاربة الرياض للأمر. فإذا ما كان الجبير يعتبر أنه «لا تمكن مكافحة الإرهاب من دون السعودية»، فذلك أن واشنطن بدأت تعتمد رؤية الرياض في أن القضاء على «داعش» لا يمكن أن يتم بالوسائل العسكرية فقط، وأن لورم الإرهاب مسببات ستنتج إرهاباً بديلاً إذا لم تتم إزالتها.
تزيح زيارة ترامب ما تخصبت به خيارات أميركية شبه أيديولوجية سابقة، وتؤسس لسقوط تيار فكري أميركي كان يدعو منذ اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية إلى التحالف مع الشيعة ضد السنّة في العالم. تغذى ذلك التيار من قناعة مفادها بأن السنّة خصوم استراتيجيون بينما الخصومة مع الشيعة ظرفية عرضية لها عنوان في طهران تزول بالاتفاق معها. وفيما يعبر الاتفاق النووي وقانون «جاستا» عن ثمار ذلك الزرع، فإن ما صدر عن وكالات الأمن والبنتاغون والخارجية والبيت الأبيض انتهاء بالإعلان عن زيارة ترامب للسعودية يكشف إسقاطاً لعقيدة وبعثاً لمفاهيم أخرى تعيد الاعتبار لثوابت في السياسة الخارجية في العالم العربي. وربما أن خلاصة الثوابت تسليم بالتعامل مع العالم الإسلامي من خلال جسمه الكبير ومن خلال بوابة ما تمثله الرياض داخل هذا العالم.
لا يرتبط حدث الزيارة بأي ارتجال متسرّع، ذلك أن النقاش بين الرياض وواشنطن بدأ منذ الساعات الأولى لوصول ترامب الى البيت الأبيض. تحادث زعيما البلدين هاتفياً واستقبلت واشنطن ولي ولي العهد السعودي، ومن داخل تلك المداولات أعيد ترتيب التحالف وصيانة مفاصله، ومن عبق التواصل الأميركي- السعودي أعادت القمة العربية الأخيرة في البحر الميت انعاش المبادرة العربية للسلام، بما بات خريطة طريق أعاد العرب تقديمها للرئيس الأميركي الجديد أداة تسوية لم يستطع أسلافه إنجازها.
يزور ترامب السعودية قبل زيارته إسرائيل. ينهل الرئيس الأميركي من منابع تلك «التسوية التاريخية» المتوخاة. ينسى البعض أن المبادرة العربية للسلام هي سعودية الأصل والمولد وأنها لم تكن لتكون مشروع العرب الجامع لو لم تكن صناعة سعودية خالصة. وربما أن الرئيس الأميركي، وخلفه جيش من الديبلوماسيين القدماء الذين كان لهم باع في فهم المسألة الفلسطينية وفي السعي الى فك عقدها واستيعاب رموزها، يدرك أن قدرة «الابتكار» عنده، وفق ما تحدث مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر، تحتاج إلى وقوف السعودية ومن خلفها كل العالم العربي والإسلامي مع جهد جريء مختلف يعِد به سيد البيت الأبيض الحالي للتوصل إلى تسوية ينفي بثقة استحالة انجازها.