رئيس قسم الفيزياء في كلية العلوم الدكتور ضياء المختار قال لنا عام 1989 في استقبال الطلبة الجدد إن مستقبلكم مضمون طالما الكلية وافقت على 140 طالبا فهذا يعني أن العراق بحاجة إلى هذا العدد من الفيزيائيين. وفجأة طلب من الطالبة زينب أن تقف. كانت فتاة عمرها 18 عاما من منطقة أبوالخصيب معدلها 93 من مئة في الثانوية العامة القسم العلمي. تستطيع دخول كلية الطب ولكنها كانت مغرمة بالفيزياء.
ما زلت أتذكر وجه زينب الذي احمرّ خجلا، ناعمة وشعرها طويل وكثيف حتى كأنه قد ملأ المكان، وكانت ترسل ضفائر نحيلة فوق بقية شعرها. وفي باص الخشب المتجه إلى أبي الخصيب سألت زينب لماذا اخترت الفيزياء وليس علوم الكومبيوتر كبقية الفتيات المتفوقات؟ قالت إنها قرأت كتابا عن آينشتاين، وحين أمسكت يدها لجمع الأجرة اشتعل وجهها واحمرّ فقلت “عفوا إن الشعور أسرع من الزمن”. ضحكت وقالت “عزا أنت شاعر شجابك ويانه؟”. كنا فتيانا عراقيين مليئين بالطموح والمرح وكان العالم غامضا ومغريا في عيوننا.
الدكتور ضياء قال لنا أدرسوا الرياضيات بمحبة فقد جلبت لكم أفضل أستاذ رياضيات في العراق وهو المسيحي الدكتور واهاك. هذا الدكتور حوّل التفاضل والتكامل المتقدم إلى سمفونية لذيذة لا مثيل لمتعتها. يقول دكتور ضياء إن الرياضيات ستعلمكم الخيال، فليس لكل خيال رياضي قاعدة فيزيائية ولكن لكل قاعدة فيزيائية برهان رياضي. وقال الأهم من ذلك أن الرياضيات ستعلمكم التفكير الصحيح والمنطق فهي تمتلك طاقة الحقيقة.
ومن كلمات الدكتور ضياء؛ إنّ كل شيء تحبه سيحبك في النهاية، وإذا أحببت الفيزياء فإنها ستبادلك الحب، ويقول كل شيء في الكون يبحث عن الاستقرار والتوازن هذه قاعدة فلكية. والإنسان كذلك يبحث عن الاستقرار بالزواج. الأفضل أن يجد الإنسان شريكا لحياته من الجامعة، أربع سنوات دراسة تعطيك فرصة كبيرة لمعرفة طباع الآخر.
وحين سألناه لماذا لأربع سنوات كل النظريات العلمية العظيمة لأجانب غربيين (كاوس وماكسويل ولابلاس ونيوتن وبلانك وآينشتاين…الخ)؟ أين نظريات مثنّى وعلي وعمر وخالد؟ ضحك رئيس قسم الفيزياء حينها وقال إن النهضة العلمية الحديثة ومنذ التنوير الأوروبي هي غربية، ونحن هنا نهتم بالعلوم وليس بالتاريخ. كان الدكتور ضياء يشجع الطلبة على المصادر الإنكليزية ويقول لهم “الإنكليزي ما يعض”. ولم يكن غريبا مشاهدة دكتور ضياء في المختبر لإجراء تجارب متعلقة ببحث علمي، أو خارجا من المكتبة حاملا مجلدات أجنبية.
مفاجأة بالنسبة إليّ أن صفحة الدكتور ضياء اليوم على الفيسبوك تناقش إشكالية الإعجاز العلمي بالقرآن الكريم أو يكتب بأن محمد باقر الصدر فيلسوف عظيم مع صورة لرجل يلبس عمامة سوداء. كان ذلك صدمة بالنسبة إليّ. فلو كنت أعرف بأن الصدر أهم من الدكتور ضياء لدرست الدين في حوزة النجف بدلا من الفيزياء في الجامعة. نحن لا نتهكّم من عقائد الناس ولكننا كنا نتوقع غير ذلك من علمائنا وأساتذتنا.
حتى الرئيس الأميركي دونالد ترامب وهو يستعد لزيارة السعودية (أول زيارة يقوم بها بعد توليه منصبه) قال إنه ليس من اللائق إجبار الناس على نمط عيش مختلف عن ثقافتهم، المهم أن يكون هناك تعاون وشراكة ومكافحة للتطرف. نحن لا نتوقع من الشعب العربي أن يتحول إلى أميركي، ولكننا نتوقع من المثقف التنويري والعالم أن ينشر الفكر العلماني ولا يرتد إلى الخرافات والذاكرة.
يقول ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لصحيفة واشنطن بوست “لا نريد أن نضيع حياتنا في هذه الدوامة، التي كنا فيها طوال الثلاثين سنة الماضية بسبب الثورة الخمينية، والتي سببت التطرف والإرهاب. نحن نريد أن ننهي هذه الحقبة الآن، نحن نريد -كما يريد الشعب السعودي- الاستمتاع بالأيام القادمة (…..) نحن لن نستمر في العيش بحقبة ما بعد 1979”.
لقد تحدث الأمير محمد بن سلمان بكلمات هزت ضميرنا جميعا كعرب، خصوصا نحن في العراق فقد دفعنا أجيالا بسبب المشكلة الخمينية وما زلنا ندفع. المهم هو أن الأمير بدّد مخاوف المراقبين بلقاء تلفزيوني قال فيه إن المملكة تريد نهاية للتهديد الإيراني للعرب. والسعودية لن تنتظر حتى تهاجمها إيران في أراضيها. وقال الأمير الحالم الكبير “كيف يمكن الحوار مع إيران في الوقت الذي تعمل فيه طهران على الهيمنة على كامل العالم الإسلامي، فإيران التي تعدّ الظروف المناسبة لعودة أو ظهور المهدي المنتظر، حسب معتقداتها، تأمل في بسط هيمنتها على العالم الإسلامي”، هذا كلام شجاع يجعلنا نسميه “أمير الأمل العربي”.
نحن في العراق بحاجة إلى الخروج من الكآبة الإيرانية، بغداد الرشيد بحاجة إلى الانبعاث من رمادها بعد هذا الحريق الصفوي. إيران تقود زيارات مليونية على مدار السنة لتهديد العالم بفقراء العراق بحجة الطقوس الدينية. وكما قادت إيران حربها الخاصة ضد الإرهاب باسم المذهب الشيعي، فإنها تقود حربا علمانية مزيفة ضدّ المقدّس السني بحجة التنوير. وهي في الحقيقة حرب قومية وطائفية. لقد وصلنا بسبب هذه الخدعة إلى أن مهاجمة التطرف والخرافات الشيعية تعتبر
عيون تعكس الواقع الرمادي
طائفية.
زجّ الدين بالسياسة ليس فكرة فكاهية. فهو يعني زج السيستاني بالسياسة، وزج الحكيم ومقتدى الصدر وحزب الدعوة بالسياسة، هو الزيارات المليونية وخرافات القرون الوسطى. قبل يومين راجعت كتاب المفكر العراقي رشيد الخيون “النصيرية العلوية بسوريا”، في جزء منه يناقش الفارق بين العلوية والشيعة. حكايات تشبه السندباد وأفلام كارتون. فالفارق هو اعتقاد العلوية بوجود باب للإمام المعصوم وهذا الباب شخص أو ما شابه وإنكار السفراء. وما يسمى “السفراء” هم أربعة أشخاص يقدسهم الشيعة ادّعوا بأن هناك ولدا للعسكري هو “المهدي” اختفى طفـلا صغيرا “غيبـة صغرى” وبقي 69 سنــة مختفيا بالجبال ولا يلتقي بأحد سوى السفراء سرّا.
وكان السفراء يعرضون على الناس رسائل المهدي وتوقيعه وأوامره. ومع الزمن قال السفير الرابع إن المهدي قد غاب غيبة كبرى ولم يعد بحاجة إلى سفراء، لأن الناس صاروا يسألون أين هذا المهدي؟ ولماذا يلتقي بالسفراء فقط وكم أصبح عمره؟ وهل يشيخ ويموت أم لا؟ وحينها ظهر الفقهاء المراجع بصفتهم “نواب المهدي” وجميعهم السفراء والمراجع يجمعون الضرائب باسم الدين ويشكلون خطرا على الدولة.
الطموح العراقي هو: كما مَنَّ الله على السعودية بالملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله والملك سلمان بن عبدالعزيز والأمير محمد بن سلمان هؤلاء العظام الذين قادوا حملة إصلاحات جذرية في الفكر والثقافة والسياسة في بلادهم، لماذا لا يحدث الشيء نفسه في العراق؟ الضرب بيد من حديد على العبث الإيراني ببغداد، ومحاصرة رجال الدين لمنعهم من التدخل في السياسة، والعودة بالبلاد إلى عام 1989 حين وقفت الطالبة الجميلة زينب بضفائرها النحيلة وطموحها بالعلوم وإعجابها بآينشتاين.
لسنا ضد اعتزاز الناس بهويتهم وثقافتهم فهذا شأن شخصي. المهم ألاّ تظهر جماعة متطرفة طائفية كحزب الدعوة والإخوان المسلمين والخميني وسيد قطب لتنقضّ على البلاد والعباد وتحرّض على التطرف والإرهاب وتحاول إغراق المنطقة بالدماء.
الدكتور ضياء المختار أستاذي المحترم رد عليَّ للأمانة وقال إنه منذ البداية كان يحمل ميولا إسلامية، ولكنّني لم أتوقع أبدا بأن أستاذ النظرية النسبية ونظرية المجالات يعتقد أن محمد باقر الصدر فيلسوف حقيقي. الصدر كان متشوقا لدولة الخميني في العراق فما علاقته بالفلسفة؟
نقلاعن العربیه