وثيقة حماس: المراجعات المتأخرة/محمد قواص

4840
وثيقة حماس تبدو هامشية في قيمتها التاريخية إذا ما قورنت بالجراحات التي أجرتها منظمة التحرير منذ سبعينات القرن الماضي. بإمكان الفتحاويين القدماء أن يتذرعوا بأن ما ‘اقترفوه’ أعادهم إلى فلسطين، فما الذي تحمله الجراحة الحمساوية للجسم الفلسطيني العليل.

لا يمكن للوثيقة التي تسرّب معظمها والتي تعدُ حركة حماس بنشرها رسميا، إلا أن تثير جدلاً فلسطينيا ينسحب على فضاءات الإسلام السياسي في المنطقة، حول الهدف من هذا التحوّل الفكري والغاية من توقيته، ومآلات ما يمكن أن يحدثه على الراهن الفلسطيني كما على راهن حركة الإخوان المسلمين.

وبغضّ النظر عمّا تحمله الوثيقة العتيدة، فإن حركة حماس عملت على ضخّ جرعات من الحدث، منذ الخريف الماضي، وتقديمه بصفته أمرا جللا يطرأ على إستراتيجية الجناح الفلسطيني للإخوان المسلمين، وراحت تمعن في إثارة غبار سجالي حوله، حتى غدا الأمر قضية كبرى تستشرف انقلابا في مقاربة حماس للصراع مع إسرائيل، وللعلاقة مع المحيط الإقليمي كما العلاقة البيتية الفلسطينية.

والحقيقة أن حركة حماس نجحت في جعل ما هو نقاش داخل تيار سياسي إلى ورشة نقاش يتراوح صداها ما بين التبرير والتفسير إلى التشكيك في نجاعة التحوّل وحقيقة مقاصده.

والحقيقة أيضا أن منابر الخارج بالغت في الاجتهاد والتعليق وسبر أغوار ما تشي به السطور، فيما اليوميات الفلسطينية بدت رتيبة لا تجد في ما اكتشفته الحركة، بعد ثلاثة عقود من نشأتها، من إضافة يمكنها إرباك الستاتيكو الذي يشل “القضية” أو يحرك مياهها الراكدة.

وقد يكون مفيداً أن الإسلام السياسي بالمعنى الذي جسدته حركة حماس قد تأخر بالالتحاق بركب الحراك الفصائلي الفلسطيني، لا سيما في شقه المسلح، والذي دشنته حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في أوائل عام 1965.

صحيح أن التيار الإسلاموي يستدعي الحراك الذي قادة الشيخ عزالدين القسام والمفتي أمين الحسيني وغيرهما من الشخصيات الإسلامية كخلفية شرعية لإعادة إطلاق حماس عام 1987، إلا أن الأدبيات التي تتحدث عن الحركة كجماعة أنشأها الشيخ أحمد ياسين، تعترف أن ذلك التيار كان يُؤثر الدعوة كأولوية على ممارسة الجهاد، وأنه لم يكن يعترف بقتال الفتحاويين والفصائل الأخرى، ولم يكن يعتبر قتلاهم شهداء.

ومع ذلك فإن “تحولا” فكرياً طوّر الدعوية منذ ثلاثة عقود باتجاه “الجهاد ضد المحتل لإعلاء راية الإسلام”، وفق روحية ميثاق أيديولوجي متعجّل وضع عام 1988.

في المنطق السياسي خرجت حركة الشيخ ياسين في لحظة الفراغ التي ولدت بعد انكفاء منظمة التحرير إثر هزيمة اجتياح لبنان عام 1982. وفي المنطق السياسي أيضاً أن حماس ترعرعت ونمت تحت سقف اتفاقات أوسلو فيما بعد، متقدمة بصفتها المصل المضاد لتفاهمات العاصمة النرويجية. وبين لحظة الهزيمة ولحظة “أوسلو”، بدت حماس منتجاً جانبيا يمثل رد فعل على فعل أصيل، وبدت عاجزة عن الإدلاء بدلو ناضج يستوعب دروس التجربة الفلسطينية النضالية بكامل وجوهها.

لا تختلف حركة حماس عن خطّ ثابت عملت عليه كافة تيارات الإسلام السياسي السني، لا سيما تيار الإخوان المسلمين، كما مدارس الإسلام السياسي الشيعي الذي يجسد حزب الله في لبنان أرقى مظاهره.

يتأسسُ ذلك الخط على كتابة التاريخ منذ اللحظة التي تطلّ بها هذه الجماعات متجاهلة تاريخ وحكاية وتجارب من سبقها. فحزب الله الذي ظهر متأخراً (في أواخر ثمانينات القرن الماضي) مع قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، عمل على تجاهل الفعل المقاوم في جنوب لبنان والذي يمتد تاريخه إلى ستينات القرن الماضي، والذي حجَّ صوبه لبنانيون وعرب، مسلمون ومسيحيون، يساريون ويمينيون وقوميون ومستقلون. أرسى الحزب قاعدة تستند على إسلامية المقاومة وشيعيتها، بما يبرر عمليات التصفية التي طالت من لا ينتمي إلى هذا الطيف الطائفي بصيغه المذهبية الخالصة.

ظهرت حماس لإقامة “خلافة” مضمرة ما يجعلها بمواجهة المجتمع بأكمله. لم يخفف واقع الاحتلال من إشهار مشروعها الإسلاموي الذي لا يستقيم مع ما تحتاجه مراحل التحرر الوطني الشامل من مشاركة جميع مشارب وتيارات وطوائف الخاضعين لهذا الاحتلال. بدا أن للحركة أجندة تتجاوز “القضية” باتجاه ما تحتاجه “الأمة”. وبدا أنها حين استفاقت على الفعل المقاوم المتصادم مع الاحتلال، آثرت البدء من المربع الأول غير آبهة بفصائل أخرى أحالتهم تجاربهم إلى مربعات متقادمة. باختصار اكتشفت حماس الأبجدية، حين كان الآخرون غارقون في المكتبات.

لا يمكن للوثيقة التي ستطلّ بها حماس إلا أن تكون في سطورها متأخرة عقودا عما استنتجته فصائل منظمة التحرير مجتمعة.

تستفيق الحركة على لغة واقعية أملتها خيبات الأيديولوجيا وسقوط اليوتوبيا المدّعية التي لطالما وسمت الحركات الثورية الفتية. وإذا كان من حق حماس أن تكتشف نضوجا، فليس مبررا ألا تعترف بمن اكتشف هذا النضوج باكرا ولا تقبل بترياقه إلا بالنسخة التي تخـرج مـن مطابخها، وليس مقبولاً ألا تتضمن هذه “المراجعة” الموعـودة اعتـرافا واضحا بخطـأ تكفيـر الآخر وتخوينه بشأن تأتي به الحركة هذه الأيام.

تبنت منظمة التحرير البرنامج المرحلي لإقامة سلطة وطنية عام 1974. اشتغلت حماس تحت سقف أوسلو المتناسل من ذلك البرنامج، وخاضت الانتخابات التشريعية عام 2006 لتكون جزءا من مؤسسات “أوسلو” الدستورية.

حسمت منظمة التحرير منذ عقود مشروعها لإقامة الدولة على حدود الرابع من يونيو 1967، فيما ارتبك خطاب حماس بين هدنة طويلة الأمد، وصولا إلى ما تشي به الوثيقة الحالية من قبول لإقامة هذه الدولة وفق رؤية المنظمة.

وفي خضم الجدل تُقرّ الحركة بأنها حركة وطنية، أي أن سعيها فلسطيني الهوى لا يطمح إلى ما يتجاوز حدود فلسطين، وأن صراعها هو ضد “الكيان الصهيوني”، وليس ضد اليهود كما يجاهر ميثاق 1988.

من يتفحص ما تسرّب من الوثيقة العتيدة سيلاحظ التلعثم والارتباك في استيلاد الصيغ وبناء المعادلات من أجل الظهور بهندام مستقل ومختلف، وربما متقدم، عما اهتدت إليه منظمة التحرير قبل عقود.

تقرّ حماس بوطنية حراكها وتوحي بانقطاعها عن جماعة الإخوان المسلمين. وتقرّ الحركة نظريا بواقـع “أوسلـو”، لكنها لا تعترف نظـريا بإسرائيل، وكأن الأمر تمرين مكرر مارسته الفصائل إلى أن اعترفت بإسرائيل عام 1988. وفي حواشي الوثيقة إقرار بما بات واقعا تعايشت معه حماس منذ عقود ولم يعد يحتاج إلى إقرار.

كانت تحوّلات منظمة التحرير تمثّل حدثاً تاريخياً يؤسس لمسار آخر في مقاربة الصراع مع إسرائيل. سبق وتلا أمر هذه التحوّلات اعتراف العالم بالحركة الوطنية الفلسطينية، وإخراج المنظمة من لوائح الإرهاب الدولية، واستقبال زعيمها الراحل ياسر عرفات في عواصم القرار في العالم.

جرى الإيحاء للقيادة الفلسطينية منذ تأهيل المنظمة في المحافل الدولية أن تغييرا يطرأ على النصوص سيحدث انقلابا في النفوس. “صوّب” الفلسطينيون مضمون ميثاق منظمتهم الذي أعلنه أبو عمار “متقادما” حين فتح له فرانسوا ميتران أبواب قصر الإليزيه عام 1989، وراحوا باتجاه انتهاك المحرمات في استسلامهم إلى مفاعيل “أوسلو”، ومع ذلك فإن واقع العلاقة مع المحتل يكشف بعد عقود من “المراجعات” عن انسداد لا نور في آخر نفقه.

تبدو وثيقة حماس ثانوية هامشية في قيمتها التاريخية إذا ما قورنت بالجراحات التي أجرتها منظمة التحرير منذ سبعينات القرن الماضي. بإمكان الفتحاويين القدماء أن يتذرعوا بأن ما “اقترفوه” أعادهم (مجازيا) إلى فلسطين، فما الذي تحمله الجراحة الحمساوية للجسم الفلسطيني العليل على دفتيْ الاحتلال والانقسام؟

ليس صحيحا أن العالم سينفتح على حماس بمجرد تلاعبها بالأبجديات وترتيب الأحرف في سطور ميثاقها. وليس صحيحاً أن الوثيقة “التصحيحية” تمهّد لمنافستها حركة فتح في الهيمنة على منظمة التحرير أو لجعلها شريكا بديلا عن سلطة الرئيس محمود عباس في رام الله. فالأمر لا يعدو كونه إقرارا بواقع الفشل الذي خبرته تجارب السابقين، وإذعانا لقواعد المجتمع الدولي ودفتر شروطه، واعترافا باختلال بنيوي في ميزان القوى لا تقوى النصوص الدينية المسيّسة على قهرها.

سبق لراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في تونس أن أعلن الفصل بين الدعوي والسياسي مغادرا الدعوة لصالح السياسة. وبغض النظر عن مصداقية ذلك من تقيته، وبغض النظر عن مصداقية الأمر من احتماله التكتيكي، فإن حماس تغادر الإسلاموية باستحياء ملتحقة بالوطنية باستحياء، وتسقط الخلافة بخجل لصالح قيام الدولة بمعناها العلماني التعددي (الكافر في بعض الأدبيات). لكن في ذلك الانتقال المشهدي الذي يغذي مظاهر الفرجة، لا يبدو أن المحتل مرتبك، كما لا يبدو أن شروط وحـدة الفلسطينيين باتـت أكثر إيناعا.

نقلاعن العرب