اختار الناخبون الفرنسيون أن يسلكوا طريقا مغايرة للمشهد السياسي في بلادهم منذ بداية الجمهورية الخامسة، وقرروا أن يكسروا تقليد تناوب السلطة بين معسكر اليميني المحافظ (الجمهوريين) وخصمه من اليسار الوسطي (الحزب الاشتراكي). يوم 7 مايو المقبل المواجهة لن تكون بين الوسط واليسار التقليديين بل ستكون بين الشعبوية ممثلة في زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، والتكنوقراطية الليبيرالية ممثلة في إيمانويل ماكرون؛ وبين الانفتاح والانغلاق وبين أوروبا الموحّدة وفرنسا المعزولة؛ مواجهة تؤشر إلى عهد جديد في السياسة الفرنسية، والأوروبية.
في انتظار الجولة الثانية
أزاح الفرنسيون، الأحد، أحزاب اليسار وأحزاب اليمين العريقة من السباق الرئاسي. أطاح الناخبون بالحزبين العريقين، “الجمهوري” الديغولي والاشتراكي، فغاب الحزبان الكبيران، اللذان احترفا الخصومة داخل الجمهورية الخامسة، عن التنافس على دخول قصر الإليزيه للسنوات الخمس المقبلة.
أماطت انتخابات 23 أبريل عن مزاج عام يتوسل تغييرا جذريا في أداء الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ عام 1958، عام إقرار دستور الجمهورية الخامسة الذي وضعه الرئيس الراحل شارل ديغول. جاء قرار الفرنسيين بعد أداء سيء للديغولي نيكولا ساركوزي رئيسا للبلاد (2007-2012)، وبعد أداء سيء آخر للاشتراكي فرانسوا هولاند (2012-2017)، فجاءت خيبة الفرنسيين من أداء العائلات السياسية التقليدية يمينا ويسارا، وجاء رد الناخبين في انتخابات الأحد رسالة غضب تاريخية نادرة.
الجمهورية تدافع عن نفسها
خرج الفرنسيون من سطوة التقليديين وراحوا ينهلون بارتجال مما تحمله الأسواق بديلا من أفكار وأشخاص. كان الأمر يشبه خروج المتفرجين من الملعب من أبواب متفرقة. فشل فرانسوا فيون، مرشح حزب “الجمهوريون” الديغولي، وخرج من السباق بنسبة 19.91 في المئة من الأصوات، فيما سقط بنوا آمون، مرشح الحزب الاشتراكي، بنسبة تصويت ناهزت الـ6 في المئة.
الأول دفع ثمن الفشل الذي التصق به بصفته كان رئيس وزراء في عهد الرئيس ساركوزي ودفع ثمن فضيحة الوظائف الوهمية المتعلقة بزوجته.
أما الثاني فدفع ثمن الفشل الذريع الذي صاحب عهد الرئيس هولاند الحالي، كما دفع ثمن صراع الزعامات الذي يقسم الحزب الاشتراكي والذي لم يقف خلفه موحدا بصفته المرشح الرسمي للحزب.
ثلاثة أسماء لمعت خلال الحملة الانتخابية. مارين لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، وريثة عرش والدها جان ماري الذي أسس الحزب وترأسه إلى أن أطاحت به الإبنة فأخرجته من زعامة الحزب ومن الحزب نفسه.
ولئن استطاعت لوبان الانتقال إلى المرحلة الأخيرة من الانتخابات في 7 مايو المقبل بنسبة 21.54 في المئة من الأصوات، فذلك كان متوقعا بسبب ما أدخلته على الحزب من تحديث في الشكل والشخوص والمضمون، وبسبب استفادة تيارها من صعود أسهم الشعبوية في العالم ومن رواج أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، ومن التسونامي الذي أحدثه البريكسيت في بريطانيا وانتخاب دونالد ترامب رئيسا في الولايات المتحدة الأميركية.
لكن المفاجأة غير المتوقعة كانت صعود أسهم مرشح اليسار المتطرف جان لوك ميلينشون.
عرُف عن الرجل أنه كان ناشطا في صفوف اليسار عامة وداخل الحزب الاشتراكي بقيادة الرئيس الراحل فرانسوا ميتران. تقلّد مناصب وزارية، ثم خرج من الحزب لينشئ تياره الخاص على يسار الاشتراكيين.
ورغم مواهب الرجل في السجال والخطابة إلا أنه بقي صوتا هامشيا ينشط على أطراف الجدل السياسي الفاعل. بيد أنه استطاع هذه المرة الإطاحة بمرشح الحزب الاشتراكي، بنوا آمون، متقدما عليه بأشواط بنسبة 16.64 في المئة وكاد بذلك أن يسبق مرشح الديغوليين، فرانسوا فيون، الذي حافظ على المرتبة الثالثة من السباق متقدما على ميلينشون بأعشار بسيطة (16.91).
والمفاجأة الكبرى التي صعقت كل الصف السياسي الفرنسي كانت بروز إيمانويل ماكرون وتصدّره السباق في المرحلة الأولى بنسبة 23.75 في المئة، واندفاعه نحو قصر الرئاسة دون منازع في المرحلة الأخيرة بعد أسبوعين. يأتي الرجل من عالم المصارف ليعمل مستشارا للرئيس هولاند قبل أن يتم تعيينه لاحقا وزيرا للاقتصاد.
لا يتجاوز عمر الرجل الـ39 عاما، ولم يكن عضوا في أي حزب سياسي، ومع ذلك استطاع في أقل من عام تأسيس تياره “إلى الأمام” على عجل، ومناكفة الماكينات الانتخابية الكبرى وتسجيل صعود لم يتوقف منذ اللحظات الأولى التي أوحى بها بعزمه خوض السباق الرئاسي.
يطرق باب الإليزيه كل من اليمينية المتطرفة مارين لوبان والرجل العصيّ على التصنيف إيمانويل ماكرون. اختارت لوبان، منسجمة بذلك مع تراث حزبها، إطلاق مواقف لا تختلف عما يطلقه الشعبويون في كل البلدان الغربية.
دعت زعيمة الجبهة الوطنية إلى الخروج من منطقة اليورو والخروج من اتفاقية الشينغن والخروج بسرعة من الاتحاد الأوروبي. في قماشة أفكارها مقت للأجنبي ووله بالفرنسي، وهي لهذا ترفع شعار “فرنسا أولا” بما في ذلك إقفال الحدود والانسحاب من مؤسسات العولمة وفتح الأبواب لإفراغ البلاد من مهاجريها وفق معايير موضوعية في الواجهة عنصرية في مضمونها الحقيقي.
روّجت لوبان لأفكار كانت معيبة وأضحت من عاديات الأمور في موسم البريكست ووصول ترامب إلى البيت الأبيض. ووفق المعيارين البريطاني والأميركي، وجدت لوبان أن مكانها في الإليزيه هو من شروط الراهن ومتّسق مع وقائع هذه الأيام، ولولا أن صدفة ما وضعت ماكرون في طريقها، فإن لا شيء كان ليمنعها لتصبح رئيسة لفرنسا للأعوام الخمسة المقبلة.
ورغم أن إيمانويل ماكرون كان وزيرا في حكومة اشتراكية برئاسة مانويل فالس، فإن الرجل ليس اشتراكيا وليس يساريا ولا يزعم ذلك. بالمقابل فلا يعتبر الرجل يمينيا بالمعنى المتعارف عليه، ومع ذلك، وربما بسبب خبرة عملية مكثفة قضاها في كواليس الحكم في الإليزيه إلى جانب الرئيس هولاند، قدّم ماكرون خطابا جريئا مضادا للترامبية ومناكفا لموجاتها في أوروبا.
اقترب من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ومن برلين أعلن بلغة إنكليزية متقنة تمسكه بالمشروع الأوروبي وبالتضامن بين الشعوب.
وأطلق سلسلة مواقف لا تعتبر لغة العصر كعدم تأثيم الإسلام والمسلمين وعدم استعداء الهجرة والمهاجرين. ثم تابع مراكمة الآراء والمواقف التي تتصدى لليمين المتطرف على نحو جليّ بعيد عن لُبس خطاب الديغوليين وعن ديماغوجية خطاب اليساريين.
أسقطت مارين لوبان الأحزاب التقليدية لكنها تواجه فرنسا العميقة في شخص إيمانويل ماكرون. قد نكتشف يوما أن صعود الرجل ليس صدفة بريئة بل عملا متقنا ساهمت فيه لوبيات ومصالح وأجهزة ومؤسسات. بدا أن الجمهورية تدافع عن نفسها من خلال ماكرون.
يكفي تأمل الكتل التي تجمعت داخل حزبه “إلى الأمام” لتكتشف توليفة عجيبة من قدامى الديغوليين والاشتراكيين والشيوعيين والبيئيين. وقدامى، ليس بالمعنى العمري بل بالمعنى الحزبي. هم مواطنون كفروا بأحزابهم فتجمعوا محمّلين بأفكارهم دون أحزابهم لتشكيل تيار رشيق براغماتي يعدُ بتخليص الجمهورية من أثقال تيارات تقليدية، كما بإنقاذ الجمهورية من خطر وقوعها في يد التطرّف.
ساء ميلنشون نتيجة الدورة الأولى من الانتخابات، وهو وإن كان حقّق إنجازا غير متوقع، إلا أن الرجل راق للعبة وزيّن له الإنجاز إمكانية العبور نحو الصفوف الأولى. بدا خطابه بعد إعلان النتائج الأولى غاضبا متبرّما مشكّكا، وقاده غروره إلى عدم الدعوة إلى التصويت لماكرون منعا لوصول لوبان إلى الرئاسة.
ناخبوه اليساريون يعتبرون ماكرون يمينيا، لكن الناخبين اليساريين كانوا يعتبرون جاك شيراك يمينيا، ومع ذلك فقد أجمعت كل الطبقة السياسية الفرنسية، يمينا ويسارا، على التصويت لصالحه في رئاسيات عام 2002 منعا لوصول جان ماري لوبان إلى الإليزيه، فكيف لميلنشون أن يرتكب عنادا تستفيد منه حكما زعيمة التطرف في بلاده؟
التصويت الآن
طبقة سياسية جديدة
دون تردد، دعا المرشحيْن الخاسريْن فرنسوا فيون وبنوا آمون إلى وقف المد اليميني المتطرف من خلال التصويت لخصمهما إيمانويل ماكرون. تستعيد فرنسا بذلك تقاليدها القديمة التي تنظم التفريق بين الخصومة الحزبية والمصلحة الوطنية.
استطلاعات الرأي في الساعات الأولى لإسدال الستار على الدورة الأولى توقعت أن ينال ماكرون 64 في المئة من الأصوات مقابل 36 في المئة للوبان في انتخابات المرحلة الثانية. تبدو طريق الإليزيه مفتوحة أمام ماكرون، لكن ذلك دونه أخطار قد لا تدركها استطلاعات الرأي، ذلك أن في بعض اليقين من الفوز كسل قد يحول دون الإقبال على التصويت، ناهيك عن أن في لب المزاج الناخب ميلا إلى نزق انفعالي قد يستبطن مفاجأة أخرى على أبواب الإليزيه. والواضح أن جمهورين متناقضين سيصوتان للمرشّحين. جمهور متفائل منفتح أوروبي الهوى لصالح ماكرون وآخر متشائم يروم التقوقع وعزل البلاد عن تحوّلات العالم لصالح لوبان.
وإذا ما انتخب الفرنسيون ماكرون رئيسا، فإن المراقبين سيرون في الأمر اجتماع الفرنسيين على منع لوبان من دخول الإليزيه وليس بالضرورة إجماعا حول برنامجه.
سيحتاج ماكرون إلى رافد برلماني يتطلع إليه. سيصوت الفرنسيون من جديد الأحد 7 مايو لإخراج النسخة المنقحة من مزاجهم العام ضد الطبقة السياسية التقليدية.
لكن الأمر لن ينتهي هنا، فإن معركة قادمة أكثر جدلا وإثارة ستشهدها البلاد في يونيو المقبل (11 و18) من خلال انتخابات تشريعية على نحو سيعيد تعريف الطبقة السياسية الجديدة ويعيد تعريف المشهد البرلماني الذي سيباشر رئيس فرنسا المقبل حكم البلاد على أساسه.