مسألة الفساد في البلد ليست همّا سياسياً يُدرج على جدول أعمال التيارات السياسية.
تكاد أبجديات الفساد أن تكون لغة مشتركة ودودة لدى الطبقة السياسة في لبنان. ويكاد أمر هذه الآفة أن يكون فضيلة تتناسل من أي حراك انمائي واقتصادي، وربما شرطاً له ومن قواعد إنجازه. وفي الجانب القدري لما هو علّة، يتعايش المواطن بعادية، تشبه ما هو من تقاليد البلد ومجتمعه، حتى لو عبّر بيأس عن تبرّم أو ضيق مما بات نهباً منظماً مقوْنناً تحميه طقوس الطوائف والطائفية.
يخبرني أحد وزراء الحكومة الحالية في لبنان ما يشبه قانونا داخل المشهد السياسي عام، اليوم وكل يوم. يقول لي: “كلهم ضالعون متورطون”. وكأنه يستعير بيتا من قصيدة مظفر النواب حين أعلن يوما أن “لا أستثني منهم أحدا”. ولا أعرف ما أذا كان تعبير “كلهم” يشمل محدثي أو هو درع ينأى بالنفس به عما هو سلوك معروف من دواعي “الشطارة” اللبنانية، أو من عدّة الشغل السياسي، طالما أن لا آليات أو قانون تنظم تمويل الأحزاب والبيوت السياسية في لبنان.
واللافت أن مسألة الفساد في البلد ليست همّا سياسياً يُدرج على جدول أعمال التيارات السياسية. فيما يغيب أمر مكافحة هذه الآفة عن الخطاب السياسي العام، كما عن قرارات الحكومة وتدابيرها، أو عن مشاريع القوانين التي تقدّم إلى البرلمان. وبينما لا تخلو ثرثرات العامة ومعلومات الدوائر المطّلعة من حكايات المحاصصة داخل مشاريع البلد، والتي يتقاسم ريعها ليلاً سياسيون متخاصمون نهاراً، فإن أعراض الفساد ومظاهر الثراء لهذا السياسي أو ذاك لا تنال من شعبيته ولا تهدد مستقبله المهني داخل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية.
تحمي الطوائف فاسديها. قد تخرج بعض الأصوات من طائفة معينة للتلميح إلى فساد سياسي ينتمي لهذه الطائفة، لكن الغريزة الطائفية تخرج براثنها كلما صدرت تهم الفساد من منابر طائفة أخرى. ووفق هذه القاعدة يحظى الفساد في لبنان بمناعة عالية تشتد قوتها كلما اشتد ساعد الساسة وارتقوا في سلم الزعامة داخل الطوائف.
في عزّ التوتر بين معسكري 8 و14 آذار، لا سيما بعد الحرب الإسرائيلية ضد لبنان في يوليو 2006، التقيت بإحدى برلمانيات حزب العمل البريطاني، وكانت عائدة للتو من زيارة لها مع وفد زار بيروت ودمشق والتقى بالرئيس بشار الأسد في سوريا والرئيس أميل لحود في لبنان وجال على منطقة الجنوب اللبناني.
وأما وإن البرلمانية (كانت وزيرة قبل ذلك) المتأثرة حكماً بفولكلورية الزيارة ورواية من موّلها، فقد أسرّت لي بلهجة العارف أن حكومة بيروت هي حكومة فاسدة. كانت الحكومة حينها برئاسة فؤاد السنيورة وقد انسحب منها وزراء 8 آذار. كان أمر الاتهام غريبا، ذلك أن الممانعين الغاضبين أنفسهم قد كالوا لحكومة السنيورة ولمعسكر 14 آذار سيلا من الاتهامات تراوحت ما بين العمالة والخيانة دون أن يصدر أي اتهام بفساد وما شابه ذلك.
والحقيقة أن عمر الحكومة وظرفها السياسي وجمود أدائها والحصار الذي تعرضت له بسبب الانقسام اللبناني آنذاك لم يسمح لها ربما بالتورط بسلوك فاسد. لكني لاحظت بعد ذلك أن حزب الله وحلفائه، ورغم ضرواة العداء بين المعسكرين، لم يتهم خصومه بالفساد، مكثفين في هجماتهم على الجانب المتواطئ مع “المؤامرة الصهيونية ضد المقاومة”. ولعل سبب هذا التعفف في استخدام سلاح الفساد هو ما نبهني إليه محدثي الوزير من أن الجميع ضالع متورط، وبالتالي لا طائل من استخدام الحجارة حين تكون بيوت الرماة من زجاج.
تختلف القوى السياسية حالياً بضراوة حول عناويين كبرى: سلاح حزب الله، الموقف من نظام دمشق، قانون الانتخابات، قانون الميزانية، خصخصة الكهرباء… إلخ. ومع ذلك لا يبدو أن هناك خصومة مصدرها ملفات الفساد. أنهى الساسة بسرعة قياسية القوانين الضرورية لتفعيل قطاع النفط في لبنان. خرج الدخان الابيض المتعلق بهذا القطاع من مداخن تسوية تمت من خلف ظهر رئيس الحكومة السابق تمام سلام بين الوزير جبران باسيل والرئيس نبيه بري. تساءل كثيرون، وبينهم الرئيس سلام، لماذا يتم الاتفاق بين تيارين سياسيين على مسألة تهم كل اللبنانيين. والأدهى أن مجمل الطبقة السياسية لم تعترض على التسوية الثنائية النفطية التي أثمرت داخل حكومة الرئيس سعد الحريري في بدايات عهد الرئيس ميشال عون ما أطلق عجلة القطاع النفطي في البلد.
لا شيء في هذا التفصيل يكشف محاصصة لإدارة هذا القطاع على الرغم من أن اللجنة المشرفة على هذا القطاع تتشكل ممن يمثلون المشهد السياسي العام. لكن الشارع في لبنان يفهم الأمر كذلك ويعتبره عادياً من ضمن منظومة تقل فيها الشفافية وتكثر فيها ثرثرة الكواليس.
والحقيقة أن الفساد أزمة ثقافية مرتبطة بالتربية التي اعتمدها المجتمع منذ ولادة الكيان اللبناني. فالخدمات التي يطلبها المواطن من الساسة وفق معايير تفضيلية ويعتبرها حقه وشرطه للولاء، هي أساس هيكل الفساد. فليس من حق من حصل على امتياز أو “خدمة” أو وظيفة على أساس المحسوبية و”الواسطة” أن يطالب الطبقة السياسية بأداء أخلاقي مثالي. وبالتالي فإن فساد الساسة يوحي بفساد العامة ويمعن في ثقافته. ثم أن ترويج الخوف يجعل من المواطن مستسلما لزعامة زعاماته أيا كان مستوى نزاهة الزعامة وقماشتها.
وأما وأن البلد على أبواب انتخابات تشريعية فإن “السوق” لا شك سينتعش من ذلك المال السياسي القادم والذي سيتعايش بحذاقة مع عملية سياسية يفترض بها أن تنتج المجمع التمثيلي البرلماني الذي يعوّل عليه أي إصلاح، بما في ذلك المتعلق بمكافحة الفساد.
والسخرية أن النضال للدفاع عن العناوين الكبرى كتحرير فلسطين والدفاع عن لبنان ومكافحة الاستكبار كما سيادة الدولة واستقلال قرارها والاحتكام إلى سلاح الدولة فقط.. هي أهداف أسمى وأرقى وأكثر استراتيجية في مصير الأمة ومسار البلد من جلبة التصدي للفساد. على هذا يتفق اللبنانيون. فالأمة داخل بركان مصيري منذ الاستقلال، ولن تتلهى في ما هو هامشي ليس متناً.
في دردشة لي مع احد المواطنين اللبنانيين مؤخراً، أسرّ لي بغضبة من الجهة السياسية التي يناصرها وقد خيب أداؤها أمله. أفاض في شرح الاسباب والموجبات التي تجعله متبرماً من مواقف وقرارات ومقاربات لا تتسق مع “المبادئ” السياسية التي شارك بالنضال دفاعاً عنها. وحين حدثته عن حكايات “البزنس” وقصص العقود والصفقات وإشاعات الإثراء (المفترض غير مشروع) التي يقال أن هذه الجهة السياسية وغيرها متورطين بها، لم يكترث كثيرا لثرثرتي ولم يفهم غرضي وراح يتابع بشغف توقه للدفاع عن لبنان المثالي الذي ما زال يناكف من أجله الخصوم.
نقلا عن:ميدل ايست أونلاين