موقف عون الذي يفهم منه تحديد لهوية لبنان الإقليمية وموقع تموضعه الجيوستراتيجي، قد يكون مطلوبا من إيران كما من مصر، التي أطلق موقفه منها، للتخفيف من الهجوم الدبلوماسي السعودي باتجاه لبنان.
لم يرتكب الرئيس اللبناني ميشال عون زلّة لسان حين اعتبر أن سلاح حزب الله حاجة للدفاع عن لبنان في ظل الضعف الذي يعاني منه الجيش اللبناني. كان بإمكان الرئيس أن يخرج بصيغة وسطية تعتبر أن الأمر يخضع لنقاش لبناني، وأن طاولات الحوار كفيلة بإنتاج إستراتيجية دفاعية تستفيد من “المقاومة” وتدرجها ضمن أساسيات الدفاع عن البلد. لكن الرئيس قال كلاماً دقيقا لا يحيد عن رؤية حزب الله لسلاحه، ويذهب مذهب الحزب في تعريف دوره في مقارعة إسرائيل.
لم يدلِ الرئيس عون بدلو من هذا النوع في زيارتيه إلى الرياض والدوحة. فروايته حول الأمر لا تتسق مع مزاج العاصمتين، وقد تكون تصريحاته في مصر ضرورة للخروج من حرج زيارته الأولى، كرئيس للجمهورية، للسعودية وبعد ذلك لقطر. ولا ريب أن ساكن بعبدا قد تناهى إلى سمعه امتعاض مصدره “الضاحية” من هذا “التهور” العوني باتجاه تطبيع العلاقة مع السعودية، فيما أن وصوله إلى القصر الرئاسي يعود في الجلّ الأعظم منه إلى تحالفه مع حزب الله ودعم طهران له.
وبالإمكان الجزم أن الرئيس اللبناني الذي حملته مبادرة الرئيس سعد الحريري إلى سدّة الرئاسة، كان يطمح إلى تخليص لبنان من الاصطفافات الحادة بين إيران والخليج، وأن ينأى بلبنان عن البراكين المشتعلة على ضفاف البلد بانتظار التسويات المحتملة في المنطقة، إلى درجة تلميحه بإمكانية التبرع بوساطة بين طهران والرياض.
وبالإمكان تخيّل أن قيام الرئيس اللبناني بأول زيارة له إلى السعودية كان من شأنها تصويب أداء لبناني تجاه الرياض لطالما التصق ارتباكه بأداء وزارة الخارجية التي كان يقودها (وما زال) جبران باسيل، رئيس التيار العوني (التيار الوطني الحر) وصهر الرئيس. لكن خلف قصر بعبدا غير البعيد عن كواليس “الضاحية” هناك من ذكّر الرئيس بقواعد اللعبة وشروطها.
لا يجافي الحقيقة القول إن إعادة إنتاج السلطة في لبنان تخضع للشروط والمعايير التي يفرضها حزب الله. انتخب لبنان مرشح الحزب رئيسا للجمهورية، وتشكّلت الحكومة وفق موازين القوى التي يقبل الحزب بتفاصيلها، فيما يتم التحضير لتحصين الإنتاج السلطوي الجديد من خلال قانون انتخابات جديد يتيح للحزب رسم برلمان يحافظ على سطوته على النظام السياسي اللبناني. وفي التحالف الذي يجمع الحزب بتيار رئيس الجمهورية حدود لا تتيح للرئيس نفسه وفريقه ممارسة شطط غير محسوب كذلك الذي سعى جبران باسيل إلى تمريره من خلال اقتراح قوانين انتخابات تطمح إلى تعظيم حجم الكتلة البرلمانية المسيحية. وبالتالي فإن رسائل الحزب للرئيس واضحة: “أنت رئيس دولة حزب الله”.
ليس في الأمر مبالغة، على الأقل في الوقت الراهن، بل إن في الأمر وصفا لواقع حدد على أساسه الرئيس اللبناني خياراته وجاهر بجغرافية موقعه الإقليمي إلى جانب نظام الولي الفقيه في طهران ونظام بشار الأسد في دمشق.
موقف الرئيس اللبناني الذي باركه وأثنى عليه أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله، يعيد الانقسام إلى النظام السياسي اللبناني في تعريف تموضع سياسات لبنان الخارجية
في القاهرة، حيث الموقف المصري مبتعد عن موقف الرياض في مقاربة الشأنين السوري والإيراني، وجد الرئيس اللبناني منطقياً أن يبعث للعالم برسائله المؤيدة لحزب الله وسلاحه. وعلى قناة تلفزيونية فرنسية، حيث الصحافة الغربية مترددة بين الدعوة لإزاحة نظام دمشق، أو المحافظة عليه بديلا عن “داعش”، أطلّ الرئيس عون داعماً لبقاء الأسد على رأس السلطة في دمشق، ليس فقط تودداً لطهران، بل ربما أيضا اتساقا مع المزاج الدولي في هذا الشأن الذي يقوده فلاديمير بوتين شرقاً، ولا يعارضه دونالد ترامب غربا.
على أن موقف الرئيس اللبناني الذي باركه وأثنى عليه أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله، يعيد الانقسام إلى النظام السياسي اللبناني في تعريف تموضع سياسات لبنان الخارجية. ولئن ردّ رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري على موقف رئيس الجمهورية بأن “لا تهاون ولا تخلي عن الثوابت” خصوصا لجهة التمسك بالدولة وسلاح الدولة، فإن هذا الردّ بات ضمن الهوامش المتاحة في السجال الداخلي الذي لا يقلق “الحزب الحاكم”. ثم إن رشاقة الطبقة السياسية وبراغماتيتها الخبيثة باتتا تتحملان تعايش الأضداد وتساكن التناقضات داخل لعبة تتيح للجميع اللعب داخل فضاءات مرسومة ومحددة.
واللافت في موقف بعبدا وتناقضه مع موقف السراي أن المجتمع الدولي أعاد الإطلالة على الشأن اللبناني ومن داخل السجال الراهن. منابر الأمم المتحدة تسارع لإبداء القلق من تصريحات الرئيس اللبناني، مذكّرة بقرارات مجلس الأمن في هذا الصدد (1559 و1680 و1701) التي تدعو بوضوح إلى حل ونزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية. فيما زيارات جنرالات الولايات المتحدة (جوزيف فوتيل قائد القوات الأميركية في الشرق أهمهم) ووزير الدفاع الفرنسي إلى بيروت تنصبُ فوق لبنان خيمة دولية لها طابع عسكري أمني تدرج البلد ضمن الخرائط التي ترسمها العواصم الكبرى للإقليم. وعلى هذا يحاصر العالم النظام السياسي اللبناني ورئيسه بقواعد جديدة دولية قد تُفرغ موقف عون في القاهرة من محليته المفرطة.
على أن موقف عون الذي يفهم منه تحديد لهوية لبنان الإقليمية وموقع تموضعه الجيوستراتيجي، قد يكون مطلوبا من إيران كما من مصر، التي أطلق موقفه منها، للتخفيف من الهجوم الدبلوماسي السعودي باتجاه لبنان. واللافت أن إثارة الإعلام المصري لمسألة موقع حزب الله في لبنان ليست على الأجندة اليومية في القاهرة، على النحو الذي يترك للمراقب أن يستنتج أن الأسئلة التي سمحت وأوحت بالأجوبة لم تكن محض صدفة تفرضها المقابلة التلفزيونية. لكن على أية حال أعاد الرئيس اللبناني تذكير من يهمه الأمر بأن لبنان يخضع للنفوذ الإيراني، وأن عملية الاختراق التي تعمل عليها الرياض غير متاحة إلا بالقدر والشروط اللذين تسمح بهما طهران.
وسبق لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أن أبلغ العالم من على منبر دافوس الدولي، في يناير الماضي، أن صناعة الرئيس في بعبدا ليست نتاج توليفة لبنانية داخلية وليست وليدة دفع الرئيس سعد الحريري للأمر، بل هي ثمرة “تعاون إيراني سعودي”. بمعنى آخر تذكّر طهران بأن شؤون بيروت هي جزء من شؤونها، وأن العاصمة اللبنانية هي واحدة من العواصم العربية الأربع التي سبق لمسؤولين إيرانيين أن تفاخروا باحتلالها، وأن تطبيع الرياض علاقاتها مع بيروت لا يمكن أن يتم دون تسويات تشمل صنعاء وبغداد ودمشق.
وفي رسائل الرئيس عون موقف لبناني واضح بالاستغناء عن هبة الـ4 مليارات دولار من السعودية للجيش اللبناني، فلا يمكن تصوّر إفراج الرياض عن الأمر فيما موقف بعبدا مؤيد لسلاح حزب الله باعتباره العماد الأول للدفاع عن لبنان، كما لا يمكن توقّع رفع وتيرة التطبيع السياسي والاقتصادي بين الرياض وبيروت على المنوال الذي وعد به وزير الدولة السعودي للشؤون الخليجية ثامر السبهان حين أعلن في زيارته الأخيرة لبيروت، أوائل فبراير الماضي، عن عودة السياحة والاستثمارات السعودية كما عن تعيين سفير جديد للمملكة في بيروت.
من داخل اللبس الذي يوحي به موقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد إيران، يجاهر الرئيس اللبناني بموقف لا يشبه رياح واشنطن، ولا يلتقي مع رياح العواصم الأوروبية، ولا مع مزاج الأمم المتحدة. قد يبدو هذا الموقف وليد لحظة حرجة في تاريخ لبنان والمنطقة، لكن عون الذي يطل حديثا على العالم من موقعه الرئاسي يمتلك من المعطيات ما يتيح له التصريح بما يحفظ اصطفافه الداخلي والإقليمي المعروف، وهو يعرف أن تصفية حسابات الدول في ما بينها قد لا تلتفت إلى موقف بيروت الظرفي، وأن مسألة مقاربة العالم لإيران وحزب الله لا يقررها اللبنانيون ولا رئيسهم في بعبدا. وحدها قمة عمان العربية المقبلة قد تكشف عن درجة انخراط موقف الرئيس اللبناني مع البيئة العربية غير البعيدة عن مزاج العالم منذ أن دخل ترامب البيت الأبيض.